اللّص والكلاب | منظور تتبّع الحدث

منظور تتبع الحدث في رواية اللّص والكلاب لنجيب محفوظ

للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية

منظور تتبع الحدث في رواية اللّص والكلاب لنجيب محفوظ


تسعى دراسة الحدث إلى رصد الوقائع  والأحداث المكونة لنسيج النص وإبراز الأثر الذي تحدثه في المتلقي  وذلك من خلال مقاربة العناصر التالية:
1 ــ الملخص الموجز؛
2 ــ الحبكة؛
3 ــ الرهانات؛
4 ــ دلالات وأبعاد الحدث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ــ الملخص الموجز

      يقتضي تقديم الملخص إعطاءَ صورة موجزة عن المتن الحكائي، مع إعادة ترتيب الأحداث ترتيبا كرونولوجيا. لأنّ عُنصر الزّمن في السرد لهُ أبعاد متعددة، فقد تقع أحداث كثيرة في لحظة واحدة، وهنا يكون السرد ملزَماً بترتيبها، فيُقدم حدثاً على الآخر، الأمر الذي يلغي التسلسل المنطقي أو التتابع الطبيعي للأحداث، أي أن السرد يتضمن حذفاً وانقطاعاً  واسترجاعاً  واستشرافاً أو استباقاً، و هذا الأمر  يُبيّن أنّ السرد لا يحترم الترتيب الكرونولوجي للأحداث. و رواية "اللص و الكلاب" تقُوم على حدث أساس هو خروج سعيد مهران من السجن و رغبته الأكيدة في الانتقام من الخونة (عليش ،نبوية...) واسترجاع حقوقه وكرامته، والانتصار لمبادئه وتفعيلها على أرض الواقع. وترتبط باقي الأحداث و الأفعال بعليش و نبوية ورؤوف علوان وطرزان ورجال الشرطة (...)، حيث يحاول كل واحد مواجهة أو مناصرة انتقامات سعيد مهران رغم انحرافها أحيانا عن أهدافها، و إلحاق الأذى بأناس لا ذنب لهم، في الصراع الدائر  بين سعيد مهران و خصومه.


    وتعتبر هذه الخطاطة العامة لأحداث اللص والكلاب، مفتاحاً لولوج ثنايا أحداث النص وفق خط زمني خطي يمكن تلخيصه في ما يلي:
    تبدأ الرواية بخروج سعيد مهران من السجن و لقاءه بخصمه عليش وأنصاره، بغية استرجاع حقوقه الضائعة ( زوجته نبوية وابنته سناء وأمواله..)، لكن اللقاء الجاف (بالصغيرة سناء التي خافت من لقاء أبيها الذي لا تعرفه) عمّق من جروحه وأيقظ غريزة الانتقام لديه. وللتقليل من حدة انفعاله وإحياء بعض ذكريات ماضيه، قرر الاستقرار المؤقت بسكن الشيخ الجنيدي، لكن روحانية المكان وطقوسه الخاصة، وأجوبة الشيخ الجنيدي المغرقة في الروحانيات، جعلت سعيد لا يرتاح كثيراً في هذه الإقامة المليئة بالمريدين والمنشدين. وأثناء تصفح سعيد مهران لجريدة "الزهرة" عثر على ركن الأستاذ رؤوف علوان، فقرر زيارته في مقر عمله، لكن عدم و جوده دفعه لزيارته بفيلته التي استقبله فيها. لكن سعيد أحس بتنكر  رؤوف لمبادئه، فقرّر سرقة فيلته فألقي القبض عليه من طرف الخدم، وطرده رؤوف علوان من بيته، بعدما أسمعه كلاماً قاسيا، فلم يبق لسعيد المنهزم سوى زيارة مقهى المعلم طرزان بهدف الحصول على مسدس للانتقام من خصومه و استرداد حقوقه، وهناك وجد نور التي اتفق معها على خطة للحصول على سيارة أحد زبنائها، حيث فاجأ سعيد مهران نور والزبون في وضع حميمي فطرد هذا الأخير من السيارة وأركبها عنوة معه في السيارة المختطفة، و بتوفره على أدوات الانتقام (المسدس والسيارة)، ذهب لقتل عليش في منزله فأطلق النار على المكتري للمنزل بدله، معتقدا  أنه حقق هدفه و نال مراده.


ثم ذهب إلى مقر الشيخ الجنيدي، فقضى ليلته هناك. وبعدها رحل إلى منزل المومس نور حيث قضى ليلته مع نور التي استرجعت شريط علاقتها العاطفية السابقة مع سعيد، المنشغل عنها باسترجاع شريط حياته. مُستهلا  ذلك بموت أبيه – حارس عمارة الطلبة – ثم أمه وتحمّله مسؤولية الحراسة منذ طفولته، ثم عرج على علاقته بالطالب التقدمي المناضل رؤوف علوان الذي برّر سرقة الفقراء لأموال الأغنياء، وأضفى المشروعية النضالية على السرقات الأولى والمتتالية لسعيد مهران، وفور عودة سعيد لمنزل نور وجدها متعبة فأعطته بذلة رجال الشرطة التي خاطتها، ثم ارتداها فوجدها مناسبة للتمويه على الشرطة، المنتشرة في كل مكان خاصة بعد عملية التحريض ضده التي قامت بها جريدة "الزهرة" العارفة بماضيه الإجرامي، فانقسم القراء بين مناصر  ومعارض لسلوكاته، مما سرّع  استفحال غريزة الانتقام من رؤوف علوان المزور للحقائق.
     استهل سعيد مهران انتقامه بالقبض على المعلم بياضة، بهدف معرفة الإقامة الجديدة لعليش و نبوية، لكن دون جدوى. فعاد إلى بيت نور ثم ارتدى بذلة الضابط، واستقل طاكسيا ثم اكترى قاربا صغيرا، ليتجه صوب قصر رؤوف علوان للانتقام منه، وفور نزول رؤوف علوان من سيارته أطلق سعيد مهران عليه النار، لكن رصاصات الحراس السريعة و الكثيرة و إصابته بإحداها، جعلته يخطئ هدفه فأصاب بوابا بريئا بدل غريمه رؤوف علوان.


     وأثناء اطلاعه على الجرائد التي أمدته بها نور، تعرف على خطئه، مع استمرار جريدة الزهرة في تحريض الرأي العام ضده، فقرر زيارة طرزان، طلبا للأكل و قتلاً للوقت في  منزل نور التي تعود كعادتها ليلا إلى منزلها، فاعترض طريقه شرطيين فانخدعا لبذلة الضابط التي يلبسها سعيد، ثم أشبعهما ضربا بعد تمويههما باعتباره ضابطا. و عاد إلى منزل نور لكنه فوجئ بطرق الباب مرات عديدة من قبل صاحبة المنزل طلبا للكراء، فحسم أمر مغادرته وفور وصوله لمقر الشيخ الجنيدي تذكر أنه نسي بذلة الضابط فقضى ليلته ونهاره هناك في انتظار حلول الليل لأخذ البذلة، حتى لا تكشف الكلاب أمره  ومكمَن وُجوده، فسلك طريق المقابر، لكن محاصرة رجال الشرطة للمكان وإحكامهم عليه، تم تطويقه  وأُطلق عليه سيلٌ من الرصاصات من كل الجهات، بعد رفض الاستسلام لهم، الأمر الذي عجّل بنهايته.


2- الحبكة: Intrigue

هي النسيج الذي يرصد الأحداث في اتّصالها وانفصالها واتجاهاتها، ومختلف المبادئ والعوامل المُتحكّمة في دينامية النص وتغيّر وضعيات ومواقف الشخصيات وتطوّر مسار السرد، وإذا كانت الحبكة التقليدية تتسم بتتابع الأحداث وتسلسلها تسلسلاً منطقيا، فتحيلُ الحدث السابق على اللاحق، ويتبعه بصورة طبيعية وخاضعة لأسباب ودواعي واضحة، مما يؤدي إلى نتائج متولدة عنها، فإن الحبكة قد تكون متعددة ولا تخضع لعوامل التتابع المنطقي، فتتسم بالتعقّد والتعدد، فإلى أيّ نوعٍ من الحبكات تنتمي رواية "اللّص والكلاب" ؟
يبدو أنّ الحبكة التي تقوم عليها رواية "اللص والكلاب" تقليديّة بدليل نهوضها على الأسباب المؤديّة إلى النتائج، فكلّ حدث فيها يتسبب في حصول نتيجة تلخّص مضمون حدث آخر، وهكذا تقُوم الأحداث على مجموعات من الأسباب تقود إلى نتائج مرتبطة بوضعيات معيّنة، ويمكننا حصر هذه الوضعيّات في:


وضعية الانطلاق: خروج سعيد مهران من السجن؛
السيرورة: -  الاتصالات الأوّلية بـ (عليش، نبويّة، سناء..)؛
-       فشل الاتصالات الأوليّة واتخاذ قرار استرجاع الحقوق المغتصبة بالقوّة؛
-       الشروع في التنفيذ؛
-       الفشل في إكمال الأهداف المرجوّة، وتضييق الخناق على المشروع الثأري لسعيد مهران من الخونة؛
المخرجات: - نجاة الخونة/الأعداء والاستسلام الأبدي لسعيد مهران .
هذا ويكشفُ تسلسل الأحداث عن خضوع الحبكة لنسق منطقي قائم على  مبدإ السببيّة، فخروج سعيد مهران من السجن وفشل مطالبته السلمية باسترجاع حقوقه، سيدفعه لأخذها بالقوة خاصّة بعد تنكّر رؤوف علوان لرفيقه في درب النضال وإهانته، مما سيقوده  نحو اتخاذ قرار  ردّ الاعتبار لكرامته المهدورة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في حقّ الوصوليين والانتهازيّين، لكن خيبة الأمل في تحقيق ذلك، ستجعل صاحب هذا المشروع الثوري مطارداً من قبل رجال الشرطة والصحافة والرأي العام الموزّع بين مؤيّد ومناهض لأخطائه المرتكبة في حق الأبرياء بدل الجناة الحقيقيين.


إن الحبكة في رواية "اللص والكلاب" تقومُ على منطق الإحباط والفشل والموت أخيراً. وعموماً، فالأحداث في الرواية لها بداية ووسط ونهاية، إلاّ أن النهاية جاءت سلبيّة ومحطّمة لأحلام ذوات مساعدة وجدت في ثورة سعيد مهران خلاصاً لها من مصيرٍ مثقل بالاستغلال والانتهازيّة، لكنّ هذا الموت البطولي – المجّاني – هو إعلانُ إدانةٍ من قبل الكاتب لهذا الواقع المتأزّم ودعوةٌ صريحة/ مضمَرة لتغييره.


3- الرّهانات: Enjeux

إنها تحدّد الطريقة التي تنتظم بها الأحداثُ برهاناتها في أية رواية، وللتذكير فهناك دائما رهانُ المحتوى  ورهان الخطاب؛ وهو الأثر الذي يسعى النصّ إلى إحداثه في القارئ، ومعنى هذا القول أنّ رهان المحتويات يتأسّس حول الشخصيات والموضوعات المتنازع عليها، والتساؤلات عن أسباب وقوع الحدث، ومُبتغى الخطاب يتأسس من خلال العلاقة التي يُقيمها النصّ مع المتلقّي/ القارئ.
فكل شخصيّات الرواية تصارع قدرها من أجل تحقيق أهدافها، وقد تنجح أو تفشل في الوصول إلى ذلك، فسعيد مهران مثلاً عانى من الفقر والحرمان وحنان الأسرة والاستقرار العاطفي والاجتماعي، فحاول تغيير وضعه بعناد وإصرار كبيرين، فبدل مجهودات جبّارة لإعادة التوازن لنفسه ولأسرته وطبقته الاجتماعية، ونجح في بعض المحاولات الجزئيّة، لكن فشله كان في الكليّات، مما جعل رهانه الكبير يتوزع إلى عدة رهانات جزئية على نقيض خصومه الذين نجحوا في رهانهم الكبير، وفشلوا في الرهانات الجزئية بدليل استفادتهم من الوضع الجديد، وفرارهم من الحساب والدفع بسعيد نحو التورط في جرائم ستقوده حتماً إلى السجن أو حبل المشنقة، فكان لهم ما أرادوا.

والملاحظ أن رهانات الشخصيات مختلفة ومتنوعة السبل والطرائق المؤديّة إليها، فوسيلة عليش لسلب سعيد مهران هي التغرير والتهديد المبطن وادّعاء ممارسة التضامن مع أسرة سعيد والحفاظ على كرامة أهله، بينما أداة رؤوف علوان لتحقيق مشروعه الانتهازي هي تزوير وقلب الحقائق وتغليط القراء والرأي العام، في حين وسيلة المومس نور للفوز بقلب سعيد مهران هي الحبّ الصادق والتضحية بكل ما تملك من أجل المحافظة عليه إلى جانبها، فكل هذه الرهانات ترتبط بالمحتوى، أمّا رهان الخطاب أو النصّ ككلّ، فهو أن المحاولات الفرديّة لتغيير الواقع مآلها الفشل والسقوط، فلا يمكن لفرد مهما بلغ من ذكاء وقوة وعزيمة وإصرار أن يغيّر واقع أمته مهما كان هذا الواقع مأساويا وظالما، فالتضحيّات يجب أن تكون جماعيّة لكي ينتصر الخير على الشرّ والحق على الباطل والعدل على الظلم.


4 ــ دلالات وأبعاد الحدث

     تُستخلص دلالات وأبعاد الحدث من خلال مقابلة الملاحظات المستخلصة من مختلف عناوين سير القراءة، وخصوصاً رهان المحتوى ورهان الخطاب. فالرهان عموماً يكتسب دلالته وأبعاده الاجتماعية من خلال إدراجه في سياق النص والظروف الاجتماعية والتاريخية المواكبة لإنتاجه وتلقيه.              
   و إذا تأملنا رواية اللص والكلاب فإننا نجد مؤشرات نصية تحيل على ظروف اجتماعية وسياسية، من ذلك قول سعيد: "كنتَ إنسانا حقّاً يا رؤوف، و فضلاً عن ذلك كنتَ أستاذي أيضاً، وحين خلا إليه قال بهدوء "لا تخف إني أعتبر هذه السرقة عملا مشروعاً"، و لكنه استدرك محذرا "ولكنّك ستجد البوليس لك بالمرصاد"، و قال له أيضا ساخرا  "ولن يتسامح القاضي معك مهما تكن بواعثك مقنعة فهو أيضا يدافع عن نفسه، "ثم تساءل بالسخرية نفسها" أليس عدلاً أن ما نأخذه بالسرقة يجب أن يسترد؟" ( اللص و الكلاب ص 82). ويضيف رؤوف علوان: "خبّرني كيف يغيّرُ الدهر الناس على هذا النحو البشع؟".

    "الطالب الثائر، الثورة في شكل طالب، و صوتك القوي يترامى عند قدمي، أبي في حوش العمارة، قوة توقظ النفس عن طريق الأذن، عن الأمراء والباشاوات تتكلم، وبقوة السحر استحال السادة لصوصا، وصوتك لا تنسى  وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلابيب الفضفاضة، علمتني حب الكتاب، وناقشتني كأني ند لك، كنت بين المستمعين لك عند النخلة التي نبتت عند جذورها قصة حبي، وكان الزمان ممن يستمعون لك: الشعب ... النار المقدسة..الجوع، العدالة المذهلة". (اللّص والكلاب 89-90).


     فهل هذه الإشارات الاجتماعية والسياسية مقصودة لذاتها في الرواية؟ إن الجواب عن ذلك بالإثبات أو النفي قد يقودنا نحو إغفال جوانب أخرى أو الانتصار لإحدى طرفي الثنائية بدعوى حضورها الكبير أو القليل في الرواية، علما بأن بعض الإشارات أو الإحالات قد تكون ذات دلالات رمزية كبيرة، رغم حضورها القليل في الرواية، وهذا ما نلمسه في رواية اللص والكلاب. فالإحالات السياسية قليلة لكن مؤشر التأريخ لبروز وعي جديد واضح، مما دفع بعض النقاد (محمود غنايم) لتصنيف هذه الرواية ضمن تيار الوعي لأنها ذات مرتكز جديد وهو وعي الشخصية، وذات أسلوب جديد في تصوير هذا الوعي بحيث تأخذ بالحساب جريان الذهن وعدم منطقيته.


     ورغم ارتباط هذه الرواية بوعي الشخصية المحورية سعيد مهران فإن الإطار التاريخي الذي دارت فيه الأحداث، لا يمكن القفز عليه فهو مرتبط بحياة أسرة مصرية تفككت نتيجة السلوك الانتهازي لبعض الأفراد، الذين غيروا قناعاتهم ومواقفهم استجابة لمتغيرات نهاية مرحلة الخمسينيات وبداية الستينيات، رغم أن سلوكهم وممارساتهم، فككت أسرا وأفقرت شعبا وقسمته إلى حراس ومحروسين، يتربص أحدها بالآخر، أي أنّ مصر دخلت تاريخاً جديدا عمل نجيب محفوظ على تصويره وبيان انعكاساته السلبية على شخصياته.


المصادر والمراجع

-       اللص والكلاب، نجيب محفوظ، دار مصر للطباعة، توزيع دار إحياء العلوم – المغرب، (د.ط).(د.ت)؛
-       الدليل في درس المؤلّفات: اللص والكلاب، د. محمد أحميد، مطبعة بني ازناسن/ سلا، المغرب، (د.ط)، (د.ت).
-       مقاربات منهجية للنصين النقدي والروائي، السنة الثانية من سلك الباكالوريا مسلك الآداب، سعيد يقطين/محمد الداهي/عثماني الميلود، مكتبة المدارس – الدار البيضاء، الطبعة الأولى2007.
تعليقات