المرجع: صبري حافظ، الخصائص البنائيّة للأقصوصة، مجلة "فصول"، المجلد الثاني- العدد الرابع/1982، ص: 19/28، (بتصرّف).
للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية
يدُور جدل واسع فيما إذا كان فنّ القصّة فنّاً
عربيّا أصيلاً تمتدّ جذوره إلى أشكال سرديّة تراثية كحكايات ألف ليلة وليلة،
والمقامات، والنوادر... أم فنّا دخيلاً استمدّه العرب من الغرب. ومهما يكُن من أمر
فإنّ الرّأي الراجح أنّ القصّة بمفهُومها الحديث قد نَشأت في الأدب العربي مَع
بداية القرن العشرين، وذلك رَاجِع لمجمُوعة من التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة
والثقافيّة التي عرفها العالم العربي، مما أدّى بالأدباء إلى البحث عن أشكال أدبية
بديلة للتّعبير عن هذه التّحولات، فكانت القصة القصيرة والرواية والمقالة في
مقدّمة هذه الأشكال، يُضاف إلى ذلك نشأة الصحافة وتطوّرها والتي كانت منبراً ينشر
من خلاله الأدباء ما يُبدعون من قصص، ولا ننسى طبعاً الحوار الثقافي مع الغرب من
خلال الترجمات والبعثات الطُلاّبيّة. كلّ هذه العوامل مجتمعة، وغيرها، ساهمت في
تبلور فنّ القصّة القصيرة أو الأقصوصة في العالم العربي. وإذا كان هذا الفنّ قد
تبلور بالأساس من خلال تراكم مجموعة من الأعمال الإبداعية، فهذا لا ينفي الدور
الذي مثّلته الكتابات النظرية والنقديّة في ترسيخه وتوجيهه، والدليل على ذلك ما
كتبه صبري حافظ في هذا النصّ الموسوم بـ"الخصائص البنائيّة للأقصوصة".
يُستَفاد من العنوان السّابق أنّ الكاتب يُحاول أن يرصد أهمّ
المميّزات والمكوّنات، التي تحدّد آليات الاشتغال الداخلي للأقصُوصة، حيث صفة
البنائيّة تُحيل على الشّكل وعلى مختلف تمظهراته التي تدخل في علاقات نسقية لتشكل
هذا الفن النثري الذي عرف ازدهاراً ملحوظاً في العالم العربي بدءاً من بداية القرن
العشرين إلى اليوم.
إذاً، ما هيّ القضيّة الأدبيّة التي يطرحها
النصّ؟ وما هي العناصر المكوّنة لها؟ وما هي الخصائص المرتبطة بالقصة من خلالها؟
وما هي الطريقة المنهجية والأساليب الحجاجية التي اعتمدها الكاتب لمعالجة هذه
القضية؟ وإلى أيّ حدّ استطاع أن يُقدّم لنا تصوّراً نظريّاً واضحاً عن الخصائص
البنائية للأقصوصة؟
لقد حاول الكاتب في هذا النصّ تقديم إطار نظري
عام للأقصوصة بدءاً
من وظيفتها، ومروراً بتدقيق المصطلح الدّال عليها، وصلتها بالأدب العربي القديم،
وانتهاءً برصد مختلف خصائصها البنائية. ويمكن رصد أهم الأفكار التي تناولها الكاتب
فيما يتعلّق بالأقصوصة فيما يلي:
-
صعوبة
إعطاء تصوّر نظري واضح المعالم لفنّ الأقصوصة، لكونه فنّاً مراوغاً منفلتاً عن التحديد، بحيث أن
كلّ دراسة تدّعي قدرتها على الإحاطة بهذا الفن يصفها الناقد بالتسطيح والميوعة؛
-
وظيفة
الأقصوصة تتمثل في التعبير عن تجارب الإنسان ومطامحه وصبواته؛
-
ندرة
الدراسات النظرية العربية، في مجال الأقصوصة، وتخبّطها في تسمية هذا الفن القصصي
بين القصة القصيرة تارة، والأقصوصة تارة أخرى؛
-
ترجيح
الكاتب مصطلح الأقصوصة نظراً لإيجازه، وإفادته التصغير بكلمة واحدة، مما يطابق
المصطلح الإنجليزي: Short story؛
-
إقرار
الكاتب بازدواج منابع الأقصوصة العربية، من خلال بيان الصلة بين الأقصوصة العربية
في شكلها الحديث وبين الأشكال التراثية العربية القديمة كالمقامات والنوادر؛
-
ازدواج
منابع الأقصوصة العربية طرح في ساحتها قضية لم تعرفها الأقصوصة الغربية وهي قضية
تبريز الذات، وذلك سعياً من الدارسين العرب إلى إيجاد جذور لهذا الفن في التراث
العربي القديم؛
-
يجب عدم
مقارنة الأقصوصة بالرواية نظراً لما تنطوي عليه هذه المقارنة من مفارقات ومن ظلم
للأقصوصة؛
-
تبلور
الأقصوصة العربية الحديثة، وتطوّرها، من خلال الانفتاح على الواقع، وعلى جمهور
واسع من القراء.
وإذا انتقلنا إلى التعريف بأهم الخصائص التي يُحصيها الكاتب للأقصوصة، والمفاهيم المرتبطة بها، فإننا نقف عند ما يلي:
-
وحدة الأثر أو الانطباع: ويقصد به تركيز الأقصوصة وتكثيفها، ويتطلّب ذلك مجموعة من الإجراءات من
قبيل وحدة الحدث أو الفعل، ووحدة الشخصية، فضلاً عن الإيحاء، والابتعاد عن
الاستطرادات، وكلّ هذا ينتج لدى القارئ وحدة الانطباع، ويجعله قادراً على الإمساك
بمضمون ورسالة العمل الأقصوصي؛
-
لحظة الأزمة:
والمقصود بها تلك التحوّلات التي تتعرّض لها حياة البطل، والتي تؤدي إلى تأزّم
وضعيته، وتعقدها، ومواجهته لأزمة أو مجموعة من الأزمات نتيجة لبعض السلوكات التي
صدرت عنه عن علم أو عن غير علم؛
-
اتساق التّصميم: وترتبط
هذه الخاصية بحبكة القصة، وتسلسل أحداثها ووقائعها، وتفاعل عناصرها المحتلفة-من
زمن وشخصيات وفضاءات...-تفاعلا يشعر القارئ بتماسك الأقصوصة، ووحدتها؛
-
زمن الحدث: ميّز
الكاتب في حديثه عن زمن الحدث بين مجموعة من الأزمنة هي: زمن الحبكة: وهو زمن لا يتوافق بالضرورة مع
الزمن الواقعي للقصة، لأن الكاتب يمكنه أن يرتب زمن القصة ترتيبات مختلفة،
كاستعمال تقنيات من قبيل: الاسترجاع، والاستباق...، وهناك أيضاً زمن القصة: وهو الزمن
الفعلي الذي جرت فيه أحداث القصة، والذي يخضع لتسلسل محدّد تسير فيه الأحداث وفق
زمن حدوثها في الواقع، ثم هناك كذلك زمن العمل الأقصوصي: وهو مزيج من زمن الحبكة، والزمن اللغوي الذي
تصاغ فيه الأفعال، فيمكن أن يفرد العمل الأقصوصي عدة صفحات لوصف حدث يقع في ثانية
أو دقيقة، ويمكن أن يسرد ما وقع خلال سنوات في جمل محدودة أو جملة واحدة، وهناك
أخيرا زمن القراءة:
وهو الزمن الذي تستغرقه عملية القراءة والذي قد يدوم ساعة أو أقل أو أكثر.
لقد اعتمد الكاتب في هذا النصّ النظري تصميماً
محكماً سلك فيه الطريقة الاستنباطية؛ بحيث
ابتدأ أوّلا بتحديد الإشكالية المطروحة، والمتمثلة في صعوبة إعطاء تعريف دقيق
للأقصوصة، داعيا إلى الابتعاد عن المسلمات النظرية القبلية، واعتماد دراسات
تطبيقية. ثم انتقل بعد ذلك
إلى معالجة العناصر المرتبطة بهذه الإشكالية، وأولها تدقيق المصطلح
(الأقصوصة)، ومقاربة إشكالية العلاقة بين الأقصوصة بمفهومها الحديث، وبين الأشكال
القصصية العربية التراثية، وحسم الكاتب رأيه في هذه الإشكالية من خلال تحديد ثلاث
خصائص أساسية للأقصوصة، هي: وحدة الانطباع، ولحظة الأزمة، واتساق التصميم.
هذا التصميم المحكم للنص عززه الكاتب بمجموعة من
الأساليب الحجاجية، منها التدقيق اللغوي في المصطلح
العربي (الأقصوصة)، من خلال شرحه، وبيان حمولته الدلالية التي تفيد التصغير،
ومقارنته بمقابله في اللغة الفرنسية Conte
والإنجليزية Short story. وفي سياق أسلوب المقارنة ذاته،
وجدنا الكاتب يقارن بين القصة الغربية، والقصة العربية، ملاحظاً تميّز هذه الأخيرة
بخاصية أساسية، هي: تبريز الذات.
يتبيّن
من خلال التحليل السابق أنّ الكاتب قد استطاع في هذا النص النظري أن يعرض لنا
مختلف الإشكاليات المرتبطة بتعريف الأقصوصة، منطلقا من فرضية أساسية وهي أن هذا
الفن منفلت عن التحديد والتعريف، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقصوصة العربية
المزدوجة المنابع (العربية والغربية). ولكن هذا لم يحل دون أن يقف الكاتب عند بعض
الثوابت التي تشكل في نظره صلب الأقصوصة، وهي: وحدة الانطباع، ولحظة الأزمة،
واتساق التصميم.
هذه
الخصائص التي تبقى مرتبطة بعناصر قصصية جوهرية مثل: الأحداث، والأزمنة،
والشخصيات... وإذا كان الكاتب قد خالف النقاد في بعض المسائل كالمصطلح، وعلاقة
القصة بالرواية، والابتعاد عن المسلمات النظرية، فإنه قد دعم موقفه بمجموعة من
الأساليب الحجاجية أهمها المقارنة، والتدقيق في المصطلح اللغوي. كل هذا وفق تصميم
منهجي محكم يبتدئ بتحديد الإشكالية ويتدرّج في معالجتها عنصرا عنصرا.
تأسيساً
على كلّ ما سبق، يمكن القول إنّ الكاتب قد نجح، إلى حدّ كبير، في تقديم تصوّر نظري
متكامل ورصين عن فن القصّة.