منهجيّة نموذجيّة لتحليل مقالة أدبيّة تنظّر لفن القصة القصيرة



مميّزات القصة القصيرة واتجاهاتها، محمد عزام


منهجيّة نموذجيّة لتحليل مقالة أدبيّة تنظّر لفن القصة القصيرة


المرجع: مميّزات القصة القصيرة واتجاهاتها، محمد عزام (واحة اللغة العربية، ص137


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية




ظهرتِ القصَّةُ القصيرةُ بمفهومها الحديثِ في الأدبِ العربيِّ منتصَف القرنِ 19م وازدهرَتْ إبَّانَ القَرن 20م، وهيَ بذلكَ فنٌّ مُستحدثٌ ظهرَ نتيجةَ التَّلاقُح مع الثَّقافةِ الغربيَّة والتَّرجمةِ عنْ آدابِها وكَذَا انتشارِ الصِّحافة، ويتميَّزُ هذا الفنُّ بخصائصَ أهمُّها: وحدةُ الانطباع، والكثافَة الشِّعريَّة، ودقَّةُ التَّصميم، والاختزال. والقصَّة القصيرة في أبسط تَعاريفِها "فنٌّ دراميٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوارُ والسَّرد، قليلُ الكمِّ يُقْرَأُ في جَلْسة واحدةٍ، يتميَّز بوحدةِ الانطباعِ"، ويلتقط الومضة المشرقة وينقل اللّمحة الخاطفة، ومن روَّاد هذا الفنِّ الجديد في أدبِنا نذكرُ: طه حسين، ويحيى حقِّي، وعبد الكريم غلاَّب، إضافةً إلى محمود تيْمور و زكريَّا تامر. وبعدَ أن نضجَ فنُّ القصَّة القصيرةِ واستَوَى على سُوقه وصار قابِلا للتَّناول والمقاربة النّقديّةِ، ظهرت دِراساتٌ نقديَّة ترُومُ التَّعريفَ به وإبرازَ خصائِصه وتجنيسَه ورصد تطوُّرِه، ومِن أبرزِ النُّقاد الذين نبَغوا في مجالِ النَّقد القصصيِّ نذكر: شكري عيَّاد، وصلاح فضل، ومحمد برادة، وسعيد يقطين ... ويعدُّ محمد عزّام من أبرز الذين عَرَّفُوا بفنِّ القصَّة واتِّجاهاتها الفنيَّة، له عدَّةُ مؤلَّفاتٍ نذكرُ منها "النَّقد والدّلالة" و"البطل الإشكاليُّ في الرِّواية العربيَّة المعاصرَة"، وقد اقْتُطِفَ النَّصُّ موضوعُ الدِّراسةِ من كتابه الموسومِ بـ"اتِّجاهات القصَّة المعاصرة في المغرب". فما القضيَّة التي يعالجها؟ وما طرُق عرضِها؟ وما المَقصديَّة التي رامَ إيصالها؟



جاءَ عنوان النَّصِّ  "مميِّزاتُ القصَّة القصيرةِ واتِّجاهاتُها" متَّسِماً بالطُّولِ ومُكوَّناً من جزْأَين يفصلُ بينهما واو العطف، ويُشكِّلان جملةً اسميَّةَ تُشكِّل مبتدأً خبرُه "متْنُ النَّصِّ"، ومن النَّاحية الدَّلالية يُقصَد بالمميِّزات الخصائصُ والسِّماتُ التي تميِّز شيئا ما عن غيره، أمَّا القصَّة القصيرة فهيَ ذلك الجنسُ الأدبيُّ السَّرديُّ المعروفُ بقصَر حجمِه، ويُقصدُ بالاتِّجاهاتِ المدارسُ والتَّيَّاراتُ، ونَفهمُ من العُنوانِ أنَّهُ يُحيل على ما تتميَّزُ به القصَّةُ القصيرةُ من خصائصَ شكليةٍ ومضمونيَّةٍ، وكذا ما تتفرَّعُ إليه منْ تيَّاراتٍ ومدارسَ. فإلَى أيِّ حدٍّ يعكسُ العنوانُ مضمُونَ النَّصِّ؟
وانطلاقاً من عنوان النَّصِّ "مميزاتُ القصَّة القصيرة واتِّجاهاتها" وشكله الطّباعيّ، واتِّكاءً على جملةٍ منَ المُؤَشِّرات النَّصِّيَّة الدّالة مثل: "نشأة القصة، حاجة اجتماعية، التعبير الفنّيّ، شعور خاطف، لحظة من عمر الزَّمن، فنٌّ موجَزٌ وسريع، تختلف مناهج القصة القصيرة واتجاهاتها.."، نفترض أنَّ النَّصَّ الذي بين أيدينا عبارةٌ عن مقالة أدبيّةٍ يروم من خلالها الكاتب التَّعريفَ بفنِّ القصَّةِ القصيرة وأهمِّ خصائصه الشَّكليةِ والمضمونيَّةِ وأبرزِ تيّاراتِه الفنيّة. فإِلى أيِّ حدٍّ تصحُّ هذه الفرضيّة؟ وما الوسائلُ الفنّيّة الموظّفة من لدُنِ الكاتبُ؟


عالج الكاتبُ قضيَّةً رئيسةً تتمثَّلُ في "إبرازِ خصائص القصَّة القصيرة وتيَّاراتها"، وقد تفرَّعت عن هذه القضيَّةِ قضايا أخرى ذاتُ صلةٍ وطِيدة بها، نبيِّنُها فيما يلي:
-    علاقةِ القِصَّة بمَقْصِدِيَّة مُبْدِعِها: عالج الكاتبُ هذه القضيَّة عندَ تطرُّقه إلَى مسألةِ الحاجَةِ الاِجتماعيَّةِ والحاجةِ الفنِّيَّةِ، ومعنَى ذلكَ أنَّ كاتِبَ القِصَّةِ القصيرَةِ يُعَبِّرُ عن المجتمع،كما يحرِصُ على تطوير الشّكل الفنّيّ؛

-    المصطلحِ النَّقدِيِّ بالنسبَة للقصَّةِ القصيرةِ: أشَار الكاتبُ إلى هذه القضيَّةِ في مَعْرِضِ حديثِه عن صعوبة نقْدِ القصّةِ القصيرةِ بِخلافِ الشعر والرِّوايةِ، نظراً لعدم وُجُودِ مصطلحاتٍ نقديَّةٍ تُساعدُ على الحُكمِ عليْها، والسّبب في ذلك جِدَّتُها وحداثَةُ ظهورِها؛
-    تلقِّي القصَّة القصيرةِ: أشار الكاتبُ إلى تلقِّي القصَّة القصيرة من خلالِ الحديثِ عن الوقت الزَّمنِيِّ الذي يصلُح لقراءَتِها ويكفِي لتلقّيها، كما أشار إلى أنَّ مُبْدِعَ القصَّة القصيرة يُراعي المتلقِّي الذي لا يَمْلِك الوقتَ الكافِيَ لقراءةِ فنِّ الرِّوايةِ؛
-   الوظيفةُ الاجتماعيَّةُ للقصَّةِ: تطرَّقَ الكاتبُ إلى كوْنِ القصَّةِ القصيرةِ تُعْنَى بِرصْد أمورِ المُجْتَمَعِ وقضاياهُ وهُمومِه، وتَسعَى إلى القضاءِ على أمْراضِهِ وأخطائِه؛
-   التطوُّرِ الفَنِّيِّ: تطرَّقَ الكاتبُ إلى تطوُّر القصَّة القصيرة فنِّيّاً، حيثُ أصبحَ كتَّابُها يُعْنَوْنَ بالجانبِ الجمالِيِّ والشَّكْلَيِّ، إضافةً إلى عنايَتِهم بالجانِب المضمونِيِّ، كما تطرَّقَ إلى هذهِ القضيَّة عنْدَ حديثِه عنْ تطوُّر تيَّاراتِ القصَّة القصيرةِ.




يتَّضحُ ممَّا سبقَ ذِكْرُه وتفصِيلُه أنَّ الكاتبَ استطاعَ بإثارَتِه لسائِرِ القضايا المنْبَثِقَةِ عن القضيَّةِ الرَّئيسة تسليطَ الضَّوْءِ على نشأَةِ القصَّةِ القصيرةِ وتطوُّرِهَا فنِّيّاً، مِمَّا قرَّبَ الفكرةَ إلى ذهن المتلقي بعيداً عنِ الغُموضِ ودرءاً لكلِّ سوء فهمٍ أو عِوَجِ تأويلٍ.
وإذا انتقلنا ناحيةَ طرائقِ العرْض ألفَيْنا الكاتبَ ينوِّعُ في أساليبِ عرْضِ فكرَتِه، وهكَذَا وجدْناه يركِّزُ على أساليبِ التَّفْسيرِ؛ حيثُ وظَّفَ التَّعريفَ لبيانِ خصائِصِ الشّيْءِ المُعَرَّفِ وتوضيحِه في ذهنِ القارئِ، ويتمثَّلُ ذلك في تَعرِيفِه القصَّةَ من خلال قولِه: "هي شعورٌ خاطفٌ ولحظة من عمر الزمن – والقصة القصيرة فنٌّ دراميٌّ أداتُه اللُّغة، وأسلوبُه الحوار والسّرد... "، وإلى جانبِ التَّعريفِ نجدُ اعتمادَ الكاتب على الوَصْفِ كما في قوله: "فنٌّ دراميٌّ أداته اللغة – وهو فنَّانٌ شديد الفرديَّة.."، ونجدُ اهتمامَه الكبيرَ بالسَّرْدِ الذي يؤدِّي وظيفة تفسيريّة توضيحيَّةً إخباريةً، ومن أمثلته في النَّصِّ "والقصة القصيرة تعرفُنا بشيء نعرفُه مسبَقاً، ونعيده يوميّاً، وهي تعرضُه في شكلِ لقطةٍ أو جزئيَّة ما، أوفكرةٍ محددة"، ورابعُ أساليب التفسير الموظفةُ في النَّصِّ هو التَّشابُه حيثُ عرَضَ الكاتبُ للتَّداخُلِ والتَّشابُهِ بين فنَّيْ القصة القصيرة والشِّعر في "الكثافة الشعريَّة" وبين الرِّواية والقصَّة القصيرة في "التَّعبير عن الحياة الاِجتماعيَّة" والقيام عَلَى "السَّرد والحوار والوصف"، وقد أدَّتْ الأسالِيبُ السَّابقةُ مجتمعةً دوراً في إيضاحِ فِكرةِ الكاتبِ وبيانِها تمهيداً لإقناعِ القارئِ بقدرةِ هذا الفنِّ الجديدِ على التَّعبيرِ عنِ المجتمعِ ومعالجةِ أمراضِه.


وفيما يخُصُّ السَّيرورة الحِجاجيَّةَ المعتمدة فقدِ اختارَ الكاتبُ الأسلوبَ الاستنباطِيَّ في بناء نصه، حيثُ انتقل منَ العامِّ إلى الخاصِّ ومن الكلِّ إلى الجزءِ؛ إذ بدأ النَّصَّ بالإشارة إلى نشأة القصّةِ القصيرةِ لينْتَقل بعدَ ذلك إلى رصْد خصائصها بِمُجْمًلِ تيَّاراتها ووظيفتِها، وإلى جانب الأسلوبِ الاستنباطيِّ اعتمدَ الكاتبُ أسلوبَ الجرْدِ أيْ تعريف الظَّاهرةِ "القصَّةُ القصيرةُ" من خلال جرْدِ مكوِّناتها، وهكذا وجدناه يعرِّفُ بالقصَّةِ القصيرةِ ويْجرُد مكوِّناتها من لغةٍ وأسلوبٍ وسردٍ وحوارٍ وكمٍّ ووظيفةٍ ودراما.
ويكمُن دوْر الأسلوب الاستنباطيِّ ومعهُ أسلوبُ الجرْدِ في التدرُّج في عرض الفكرة وتوضيحها عبْر التفسير والتفصيل، حتَّى تستحيلَ واضحةً في الذِّهنِ.


عمِل الكاتبُ في نصِّه على التَّعريفِ بالقصَّةِ القصيرةِ وظروفِ نشأتها، كما رصَدَ جملةً من خصائصها وتياراتِها دونَ أن ينسى الإِلْماعَ إلى وظيفتِها، وقدْ قصد من خلالِ نصِّه إلى بيانِ قدرةِ القصَّة القصيرة على نقْدِ المجتمعِ منتصِراً لهَا على حساب الرِّوايةِ، وقد استخدَم من أجل ذلك وسائلَ عدَّة تنوَّعت بيْنَ اللُّغةِ العلميَّةِ والجُمَلِ الطَّويلةِ وطرائقِ العرضِ المختلفةِ من تعريفٍ وسردٍ وتشابهٍ، إضافةً إلى الرَّوابط التي أدَّت دورا في إحكام التَّرابط اللُّغويِّ والدَّلالِيِّ والعُضويِّ بين مكوِّناتِ المقالةِ ووظيفةً في تدرُّجِ الفكرةِ وبنائها، أضفْ إلى ذلك تعدُّدَ الإطاراتِ المرجعيَّة وتنوُّعَ المفاهيم، كلُّ هذا ساعَدَ الكاتبَ في عرْضِ فكرتِه ومناقشَتِها، وبناءً على ما سبَقَ نَصِلُ إلى إثباتِ صحَّةِ الفَرضيَّةِ وانتماءِ النَّصِّ إلى جِنْسِ المقالةِ الأَدبيَّةِ التي يعالج فيها الكاتبُ خصائص القصَّة القصيرةِ. ونَعتقدُ أنَّ الكاتبَ قد وُفِّقَ في دفاعه عنْ فنِّ القصَّة القصيرة، لكنَّنا لا نتَّفقُ معه في كونِْ القصَّة القصيرة هي القادرة وحدَها على نقْدِ الواقِع، لِأَنَّ وظيفةً مثل هاتِه تحتاج إلى تضَافُر الفُنونِ كلِّها. فإِلَى أيِّ حدٍّ تمثَّلَ كتَّابُ القصَّةِ القصيرةِ خصائصَها إبَّانَ كتابتِها وإبداعِهَا؟
تعليقات