منهجية تحليل نصّ نظري | المنهج البنيوي : يمنى العيد، في معرفة النص





منهجية تحليل نصّ نظري: المنهج البنيوي




منهجية تحليل نصّ نظري/ نقدي: المنهج البنيوي


المرجع: يمنى العيد، في معرفة النص (كيف يقارب المنهج البنيوي موضوعه؟)، دار الآفاق الجديدة-بيروت، الطبعة الأولى/ 1983، ص: 35/37 (بتصرف)؛


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية







إذا كان المنهج الاجتماعي يعتبر العمل الأدبي منتوجاً جماليّاً واستهلاكيّاً ينبثق، بما يحمله من دلالات وأبعاد خاصة، من محيطه الاجتماعي؛ ومن ثمة فهو يعدّه رسالة اجتماعية ذات صبغة فنيّة نوعية محدّدة تؤول مسؤولياتها والتزاماتها إلى صاحبها الأديب أو الكاتب المبدع... فإنّ المنهج البنيوي يقوم على مبدإ المقاربة النّقديّة المحايثة لهذا العمل نفسه حريصاً على تحديد عناصر ومكونات بنياته، والوقوف عند علاقاتها وأنساقها ومستوياتها المختلفة للكشف من خلال ذلك كله عما يميزه من خصائص فنية وتعبيرية. وتعتبر الناقدة اللبنانية يمنى العيد واحدة من أبرز النقاد العرب المعاصرين الذين عملوا على تبنّي واستثمار عدد من المفاهيم والإجراءات المنهجية التي تخصّ التحليل البنيوي، والمبادرة إلى تطبيقها ضمن مجموعة من الدراسات والأبحاث النقدية المنشورة التي نذكر من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، العناوين التالية: في معرفة النص، تقنية السرد الروائي، في القول الشعري، الراوي: الموقع والشكل...
إذا تأمّلنا عنوان النصّ، نجد أنه مصاغ على شكل سؤال (كيف يقارب المنهج البنيوي موضوعه؟)، وهذا يجعلنا نفترض بأنّ النص سيكون جواباً عن هذا السؤال؛ أي أنه سيتطرق إلى تعريف المنهج البنيوي، وإلى كيفية تعامله مع النصوص الأدبية.
إذن، ما هي القضية النقدية التي يطرحها النصّ؟ وما هي العناصر المكونة لها؟ وما هي خصائص المنهج البنيوي من خلال هذا النصّ؟ وإلى أيّ حدّ استطاعت الكاتبة أن تقدّم تصوّراً نظريّا واضحاً حول هذا المنهج؟




يُحاول هذا النص النظري-على امتداد سطوره وتلاحق فقراته-الإجابة عن السؤال المباشر الذي يطرحه عنوانه منذ البداية، وهو: "كيف يقارب المنهج البنيوي موضوعه؟"، بالتدرّج في ذلك وفق مجموعة من الخطوات والمراحل التي نستعرضها فيما يلي:
-   خطوات مقاربة المنهج البنيوي لموضوعه (من: كيف يقارب... إلى: ... اللغة التي يبني بها النصّ.)
وهي بالتحديد خطوتان أساسيتان: أولاهما تحضيرية، وتتعلق بضبط بنية الموضوع المدروس، وتحديد ما تتميز به هذه البنية ذاتها من شروط خاصة؛ كالاستقلالية، وإمكانية عزلها عن مجالها؛ أي خارج الموضوع, أما الخطوة الثانية فتتجاوز جانب التحضير للعمل إلى جانب التحليل. ولتعرف بنية العمل المدروس يلزم الباحث أو الناقد علوماً وأدوات معرفية تساعده على ذلك؛ فمعرفته باللسانيات مثلا ضرورة تستوجبها محاولته تحليل النص الأدبي.
-   غايات وأهداف التحليل البنيوي في مقاربة موضوعه (من: ماذا يستهدف التحليل؟... إلى: ... مقاربة جديدة كشفت معطيات هامة فيها).
ويسعى التحليل هنا إلى كشف عناصر البنية ودراستها انطلاقاً مما يحكم مفاصلها ومكوناتها من علاقات تنتظم مختلف مستوياتها، وتحدّد قوانينها وأنساقها؛ كالوقوف في تحليل بنية النص الشعري والإحاطة بدلالاته الفنية والتعبيرية المنتظمة عند المحورين الأفقي والعمودي، ومن ثمة فتعرّف عناصر البنية، والكشف عما يحكم اشتغالها من علاقات وأنساق محددة لا يسمح-حسب تصور الكاتبة-بالوقوق عند آلية الحركة بين مختلف عناصر هذا النص فقط، بل ويمكّن الباحث كذلك من القبض على الرؤية التي توجه هذه العناصر واستخلاص عدد من القوانين المشتركة -إن وجدت-التي تربط نصا مفرداً بغيره من النصوص الأخرى، كما هو الحال مثلاً بالنسبة للحكايات الشعبية الروسية التي عمد فلاديمير  بْرُوب إلى مقاربتها وتتبّع مفاصلها ومراحل انتقالها.


-   مستوى قدرات المنهج البنيوي وحدود إمكاناته في المقاربة والتحليل (من: إن المنهج البنيوي أثبت قدرته... إلى: ,,, قطعه عن هذا الخارج).
وتفضي الكاتبة في هذه المرحلة الأخيرة إلى تقويم الخلاصات والنتائج المحصّل عليها بخصوص قضايا استثمار المنهج البنيوي واعتماد مفاهيمه وإجراءاته في البحث والتحليل، ومن ثمة فهي تنظر إليه بوجه عام نظرة إيجابية لقدرته على كشف خصائص الشكل الظاهر، والوصول من خلال ذلك إلى ما هو عام ومشترك، فضلاً عن إمكانيات واسعة ومنفتحة لاشتغال هذا المنهج وتطبيقه في مجالات بحث متعددة، وخصوصاً ما يتعلّق منها بالآداب والعلوم الإنسانية؛ كالأساطير، والأنثروبولوجيا، والنقد الأدبي...، ومن ثمة يمكن الإقرار إجمالاً بقدرة التحليل البنيوي، في نطاق مقاربته النصّ الأدبي، على إضاءة بنية هذا النصّ، وتتبّع حركة عناصره، والوصول كذلك إلى دلالاته الفنيّة والتعبيريّة... غير أن الكاتبة نفسها وهي تستعرض مبادئ وخطوات التحليل البنيوي لا تغفل الإشارة إلى بعض مكامن قصوره وضعفه بحيث تنظر إلى هذا المنهج النقدي نظرة مبطنة بالشك والريبة، حتى وإن أبدت رضاها عما أحرزه من نجاح وحقّقه من نتائج إيجابية، ومن ثمة فهي لا تتردّد في إظهار ما يشبه الاعتراض على بعض مبادئه ومفاهيمه وتصوراته الإجرائية كحرص هذا المنهج النقدي في مقارباته وتحليلاته أن يظل النص الأدبي موضوع المقاربة معزولاً عن خارجه بدعوى "الاستقلالية"؛ وهو ما يدفع بها إلى أن تتساءل في نهاية النصّ قائلة: "... ولكن هل يمكننا أن نبقي النص في عزلته؟ وهل النص هو حقا معزول؟ وهل استقلالية النص تعني إقامة الحدود بينه وبين ما هو خارج، أو قطعه عن هذا الخارج؟".




وفي ضوء هذه الخلفية المعرفية المؤطرة لمجموعة من القضايا والمفاهيم المختلفة والمتعددة التي يعرضها النص، والتي مرجعها النقدي والأدبي هو التحليل البنيوي تحديداً، تعمد الكاتبة إلى التمييز، في سياق حديثها عن "البنية"، بين مستويات سطحية وأخرى عميقة آخذة في ذلك بعين الاعتبار ارتباط هذا المنهج الوثيق باللسانيات الحديثة، واستلهامه لعدد كبير من أطروحاتها وتصوراتها النظرية، وكذلك إجراءاتها التطبيقية في مجال دراساتها الرائدة للغة على مستويات عديدة: الأصوات، الدلالة، التركيب، المعجم، الصواتة... ومن ثمة فإنّ المسار النقدي والمنهجي للمحلّل البنيوي ينطلق –في تصور الكاتبة نفسها-من المستويات السطحية للبنية في النص الأدبي، كالرمز والصورة والموسيقى... لكي يفضي بعد ذلك إلى مستوياتها العميقة.


  وبالنظر إلى اللغة في هذا النصّ النظري، يتبيّن أنها تنحو منحى علميا يتوخى الدقة في الطرح والتحليل، ومن ثمة فهي تنزع في الغالب الأعم منزع التقريرية ووضوح الفكرة حتى تترسخ في ذهن المتلقي دون اضطراب أو تشويش، غير أن ذلك لا ينفي جنوحها أحياناً إلى الإيحاء انطلاقاً من بعض المجازات والاستعارات المحدودة لخلق قليل من الحيوية الفنية والتعبيرية، ونذكر منها، على سبيل التمثيل، الكلمات والعبارات التالية: (مسلّحاً بالمنهج، الدخول إلى المختبر، نسيج العلاقات اللغوية، آلية الحركة، خصوبة المنهج، إضاءة بنية النص...إلخ)، كما لا نغفل الإشارة-في هذا المستوى من التحليل اللغوي والمعجمي للنص-إلى أن مجموعة من المفاهيم التي ارتكزت عليها الكاتبة، في معالجة موضوعها ومناقشة قضاياه وأفكاره، تنتسب إلى حقول ومرجعيات معرفية وعلمية متعددة؛ منها مفاهيم لسانية (البنية، اللسانيات، اللغة، عناصر البنية...)، ومفاهيم أدبية (النص، اللغة، الصورة، الرمز، الموسيقى...)، ومفاهيم نقدية (موضوع البحث، التحليل، الناقد، مكونات النص، التداعيات...)، ومفاهيم أجناسية (نصوص شعرية، رواية، الحكايات الشعبية...)، ومفاهيم ثقافية عامة (المجتمع، العام، المشترك، الأساطير...).
وحتى تقرّب الكاتبة، من ذهن المتلقي، مجموع القضايا والمفاهيم النقدية التي يتناولها هذا النص بخصوص الكيفية التي يقارب بها المنهج البنيوي موضوعه، فإنها عمدت إلى حسن ترتيب الأفكار على امتداد الجمل وتوالي الفقرات من خلال الانتقال من العموم إلى الخصوص، ومن الكلّي إلى الجزئي-عن طريق المنهج الاستنباطي-للكشف عن مبادئ التحليل البنيوي وخطواته المتضافرة، حيث حرصت الكاتبة على مبدإ التدرّج بالانطلاق من طرح القضية (موضوع النص)، واستعراض جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة من خلال التحليل والمناقشة، لتنتهي إلى تركيب النتائج والخلاصات المتوصل إليها مع الإدلاء بموقفها الشخصي.


أما فيما يخصّ الجانب الحجاجي (الإقناعي) فإن الكاتبة تتجاوز مستوى الإخبار إلى الوصف والتفسير؛ بحيث تعمد إلى التعريف ببعض القضايا والمفاهيم النقدية كلّما لزم الأمر الشرح والتوضيح؛ فهي تقول على سبيل المثال في بداية النص: (أول خطوة في المنهج هي تحديد البنية....)، كما لا تتردد أيضا لما يستدعي الموقف ذلك في تقديم الأمثلة المناسبة لتعضيد قولها وتقويته.

باختصار شديد يمكن القول إنّ الكاتبة قد استطاعت الإحاطة بأهمّ مبادئ التحليل البنيوي، والتعريف بأبرز خطواته وإجراءاته المنهجية، فضلاً عن خلفيته المعرفية والمرجعية (اللسانيات تحديداً)، كما لم تفتها الإشارة إلى مستوى إمكاناته وقدراته الموفقة بخصوص محاولته المستمرة البحث-في إطار مقاربته النقدية "الحديثة"-عن مجموعة من القوانين المشتركة بين نص محدد وغيره من النصوص الأدبية على اختلاف وتنوع أجناسها الفنية (النص الشعري، الرواية، الحكايات الشعبية...)، غير أن ذلك كله لم يمنع الكاتبة من التساؤل بنوع من الحيطة والتحفظ الشديدين بخصوص حدود هذه الإمكانات والقدرات المنهجية والنقدية التي يتيحها التحليل البنيوي في علاقته بالنص الأدبي عامة؛ سواء تعلق الأمر بالنقد الغربي، أم النقد العربي، مثيرة بذلك إشكالية استيراد المناهج والمفاهيم الغربية، وما يتولد عنها من أسئلة وتداعيات ثقافية وأدبية ونقدية.


أما بخصوص عرض القضية ومعالجتها في النص، فإن الكاتبة استعانت أساساً باللغة التقريرية المباشرة التي هيمنت فيها الجملة الخبرية، كما أنها استعملت جهازا مفاهيميا يتوزع إلى عدة حقول ومرجعيات معرفية كاللسانيات والأدب والنقد... وبالنسبة للبناء المنهجي، فقد اتبعت الكاتبة الطريقة الاستنباطية التي انطلقت فيها من المبادئ العامة ثم انتقلت إلى الجزئيات والتفاصيل. أما على المستوى الحجاجي فقد اعتمدت مجموعة من الوسائل الإقناعية كالتعريف، والتمثيل.
ونشير أخيراً إلى أن تبني المنهج البنيوي في مقاربة النصوص لا يخلو من طرح عدة إشكاليات، أهمها اختلاف المقاربات البنيوية نفسها (البنيوية الشعرية، البنيوية السردية، البنيوية السميائية، البنيوية التكوينية...)، يضاف إلى ذلك ما طرحته الكاتبة في آخر النص من أسئلة مشروعة ووجيهة تتعلق بمحدودية المنهج البنيوي في مقاربة الظواهر الأدبية.








حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-