[حصريّ] | تحليل نصّ امرؤ القيس في باريس، عبدالكريم برشيد




منهجيّة تحليل نصٍّ مسرحي: امرؤ القيس في باريس، عبدالكريم برشيد


 تحليل نصّ امرؤ القيس في باريس، عبدالكريم برشيد

منهجيّة تحليل نصٍّ نثريّ/مسرحي: المسرحيّة


تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة امرؤ القيس في باريس، عبدالكريم برشيد، كتاب واحة اللغة العربيّة، ص195 ؛ – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا آداب وعلوم إنسانية




إعداد الأستاذ: عبد الرحيم دوْدي


يعُّد المسرحُ فناً من الفنونِ الأدبيّة الجميلة، إنّه وسيلةٌ تعبيرية إبداعيّة تنشدُ الكشف عن بعض الاختلالات الحاصلة في المعيش اليومي، بطريقة تتمازج فيها الأبعاد اللغوّية بالأبعاد التمثيليّة. وقد ظهر هذا الفن بشكل ناضجٍ في العالم العربي، آواخر القرن التاسع عشر وبدايةِ القرن العشرين، بفعل المثاقفة والترجمة والصحافة. فكانت المحاولات المسرحيّة الأولى عبارةً عن اقتباساتٍ من نصوصٍ مسرحيّة عالميّة كما فعل "مارون النقاش" في مسرحيّة البخيل التي استوحاها من مسرحيّة موليير.
إلا أنّ الحاجة إلى تأصيل المسرحِ العربي كانت ملحّة، فبرز إلى الساحة الأدبية نقادٌ ومنظّرون ومبدعون عملوا جاهدين على اجتراح أشكال مسرحيّة لا تحاكي أعمال الغربيين، بل تنهض أساساً على البحث في التراث العربي القديم عن أشكال مسرحيّة وإعادة استثمارها بشكلٍ عالمٍ وخلاق.
واستجابةً لهذه الإملاءات الفنية، سيظهر المسرح الاحتفالي بالمغرب، خلال السبعينيات من القرن الماضي. ويعد عبد الكريم برشيد أول من دشّن هذا المضمار الباسل في الفن المسرحي، إذ استطاع اجتراح شكلٍ مسرحي جديد، يزواج بين المنجز التراثي العربي القديم وبين المسرح العالمي، في بعده الإنساني.



  ويَكْمُنُ الدافع وراء هذا الاجتراح، رغبة عبد الكريم برشيد في تأصيل المسرح العربي، والبحث عن جذور له في الظواهر المسرحية العربية القديمة. وهذا ما يعني، بصيغة أخرى، أن عبد الكريم برشيد، يحاول وضع نطرية مسرحية أثيلة وفريدة، تحافظ على الخصوصية العربية، وتهفو إلى معانقة الهمّ الإنساني. ومن أهم رواد هذا الاتجاه المسرحي: محمد الباتولي، الطيب الصديقي، مصطفى رمضاني، عبد الرحمن بن زيدان، وعبد الكريم برشيد.

وليس خافياً على كلِّ عاشقٍ للمسرحِ، أنّ عبد الكريم برشيد يعدُّ من المنظرين الأوائل والمبدعين الأفذاذ للمسرح الاحتفالي تنظيراً وتطبيقاً، وله في هذا المجال كتبٌ عديدة نذكر منها ما يلي: "حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي"، "ابن الرومي في مدن الصفيح"، سالف لونجة" و"امرؤ القيس في باريس"، المسرحية التي اقتطف منها النص قيد الدراسة.


ويضعنا عنوانُ النص أمام مفارقة دلاليّة عجيبة، نقف حيالها ذاهلين، فهو يشير إلى قطبين حضاريين مختلفين؛ القطب الأول امرؤ القيس وهو شاعر وأمير عربي جاهلي عاش حياة المجون والعربدة، أما القطب الثاني فهو مدينة باريس، مدينة الأنوار والثقافة والفكر. وبهذا، نكون أمام عنوان يحيل إلى تنافر فكري صارخ، فوجود امرئ القيس في باريس، يوحي بصدام حضاري، بين نسقين ثقافيين مختلفين؛ الأول يعكس ثقافة البدو البائدة، والثاني، يحيل على حضارة تعانق أفقاً جديداً في العيش والتصور والحكم.
هذه المعطيات الدلالية تتأكد بعد قراءتنا لبداية النص ونهايتِه؛ إذ تضعنا البداية، بشكلٍ مباشرٍ، أمام مشهد لشخص يدعى عامر الأعور وهو يستحثّ امرئ القيس على الرحيل من مدينة باريس أما النهاية فتضعنا حيال مشهدٍ ضاجٍ بالنحيب يظهر فيه امرؤ القيس مقتولاً.
استناداً إلى هذه المشيرات والملاحظات، نفترض أن النص عبارة عن مقتطف مسرحي، يعالج فيه الكاتب إشكالية الصدام الحضاري، بشكل احتفالي، يستلهم التراث الإنساني. فكيف عالج الكاتب هذه القضيّة؟ وما الخصائص الفنية والجماليّة التي ينهض عليها هذا النص؟



يدور النص حول حدثٍ رئيس، يتحدد في مقتل امرئ القيس على يدِ رجلين مسلحين في مدينة باريس العالميّة. وقد فرّغ الكاتب هذا الحدث في مشهدين متصاقبين؛ المشهد الأول يظهر فيه عامر الأعور وهو يدعو امرئ القيس إلى الرحيل عن باريس رغبة منه في إنقاذه من الاغتيال. أما  المشهد الثاني فيصف فيه الكاتب الشعور المهول الذي اختلج في وجدان امرئ القيس حين أدرك أنه معرض للاغتيال، مع كشفه  لملابسات اغتيال هذا الأمير الضليل.
وعموماً فقد انتظمت أحداث هذه المسرحية في خطاطة سردية دقيقة وممنهجة مترابطة الأحداث، تنطلق من وضعية بداية دينامية، تضعنا مباشرة في قلب الحدث، يحضر فيها امرؤ القيس وهو يغط في نومه، بعد ذلك تختل الأحداث بدخول عامر الأعور بمعية بابلو وإيقاظهما لامرئ القيس داعيان إياه للفرار، وهذا ما توضحه وضعيّة الوسط التي تكشفُ عن مطاردة رجلين مسلحين لامرئ القيس، بيْد أن أحداث هذه المسرحيّة تبدأ بالانفراج بطريقة عكسيّة تجسد تلكؤ امرئ القيس عن الهروب وتماديه في غيه إلى أن لقي حتفهُ في الأخير فسقط مضرجاً بدمائه في نهايةٍ مأساوية.


وتكشف هذه المسرحيةّ عن صراعٍ درامي واحتقان تراجيدي للأحداث، تشي بهما التموجات الانفعالية التي تعتمل في وجدان البطل: فعلى المستوى النفسي ينوس البطل بين الحيرة والخوف واللامبالاة. أما من الناحية الاجتماعية، فتواجد البطل في بلد ليس بلده يجعله يحس بالهوة الاجتماعية السحيقة الفاصلة بينه وبين الآخر.
 ولتحريك أحداث هذه المسرحيّة، لجأ برشيد، إلى توظيف مجموعة من الشخصيات (القوى الفاعلة) المختلفة من حيث وضعياتها الاجتماعية والنفسية، ومن أهم هذه الشخصيات نلفي: "امرأ القيس" وهو بطل المسرحيّة، يحيلُ مرجعياً على شاعر وأمير عربي جاهلي، ويحضرُ في النص باعتباره شخصاً مهماً يرتبط مصيره بمصير أمةٍ. ثم عامر الأعور، وهو شخصٌ طيب وشريف يتوجس خيفةً من اغتيال امرئ القيس. ولدينا بابلو، صديقُ امرئ القيس لهُ درايةٌ بالمخابئ التي يمكن اللجوء إليها هروبا من بطش الرجلين المسلحين اللذين يبحثان عن امرئ القيس قصد تنحيته وتصفيته.



 ولأن القوى الفاعلة، تجسد أدواراً عامليةً داخل كل محكيٍّ، كيف ما كان نوعه، لا نرى ضيراً في الوقوف عند البنية العامليّة التي انتظمت هذه القصة من خلال وظائف وبنياتٍ يمكن جردها كالآتي: يتحدد الفاعل في المسرحية في امرئ فهو الذات الراغبة في تحقيق موضوعها المتمثل في الحفاظ على المُلكِ، أما المرسل فهو الواجب الإنساني والمرسل إليه الرعيّة، بينما يتنافر العامل المساعد المتبدي في عامر الأعور وبابلو مع العامل المعيق المتراءي في لامبالاة امرئ القيس ومطاردة الرجلان المسلحان له.
في ضوءِ ما سبق، يمكن أن نعتبر بطل المسرحية بطلاً إشكاليا بتعبير جورج لوكاتش؛ إنه بطل مأساوي يبحث عن حتفه. فضلا عن ذلك، فإن شخصيات مسرحية "امرؤ القيس في باريس" تحيل إلى عوالم رمزية بالغة الغنى؛ لقد استطاع عبد الكريم استثمار الذاكرة الإنسانية في صياغة قالب إبداعي يضج بدلالات متعددة. وبهذا الاعتبار، فقد تمكّن، هذا المسرحيُّ، من العودة إلى التراث الأدبي العربي القديم، و إعادة توظيفه في بناء مسرحيته، لكن هذا التوظيف لم يكن حذافيريا؛ يعيد التاريخ كما هو، وإنما كان يستند إلى إفراغ التاريخ من أبعاده الحقيقية، وتلوينهِ بأبعاد تتساوق وروح العصر. لهذا، فامرؤ القيس في هذه المسرحية يحيل على الإنسان العربي المهاجر إلى بلاد الآخر الغريب. أما عامر فهو صديق وفيٌّ يشفق على ابن بلده، ويطمح إلى إنقاذه. إنه الضمير الجمعي الذي يحرك الأخ اتجاه أخيه. أما بابلو فهو الآخر العارف بجحور بلاده والطامح إلى إنقاذ الضيف.


ولأن النص المسرحي ينهض على تقنية الحوار، بشقية الخارجي والداخلي، فقد هيمن الحوار على جسد المسرحية هيمنة واضحة؛ إذ نجده حاضراً عبر امتداد المسرحية. لكن الملاحظ في هذا الحوار أنه يصطبغ بنبرة تتغير من شخصية لأخرى، فامرؤ القيس مثلا تتهادى أغلب صيغه الحوارية بين الحيرة والخوف واللامبالاة في جو يطبعه نوع من الاستفهام المبهم. أما عامر وبابلو فتحذوهما رغبة لاعجة في إنقاذ امرئ القيس، لكن تصرفات امرئ القيس اللامبالية تصيبهما بالتعجب والاستغراب. وتتبدى حيرة امرئ القيس أيضا في المونولوجات الواردة في النص، فقد وظفها الكاتب لإبراز مدى التوجس والحيرة اللتين تعتلجان في نفس البطل.


والمتأمل لهذه المسرحية، يلفي أن الأزمنة تتداخل بشكل مفجع داخل فضاء المسرحية، فلا يغدو بإمكاننا أن نحقب هذا الزمن إلى تمفصلاته الصغرى. إننا بإزاء زمن ميت يتداخل فيه الماضي بالحاضر بالمستقبل، وهذا التداخل يحيل على أن زمن الإنسان العربي واحدٌ. بينما تترواح أحداث المسرحية بين مجموعة من الأمكنة، إذ يفقد المكان حضوره الفضائي المخصوص والحقيقي ليدخل في فضاء من الإحالات الرمزية... إن باريس، من هذا المنطلق، ليست سوى رمز لحضارة غاشمة تبتلع الإنسان العربي المهاجر...
وقبل أن نُنهي هذه المقاربة التحليلية، حقيقٌ بنا أن نشير إلى أنَّ الإرشادات المسرحية المبثوثة في أرجاء النصّ كان لها دورٌ كبيرٌ في توجيهِ المتلقي إلى عمق العمل المسرحي؛ وذلك بكشفها عن الانفعالات الوجدانيّة للشخصيات مع موضعتها القارئ داخل فضاء المسرحية.



وختاما، فقد جسدت هذه المسرحية الاحتفاليّة ضرباً جديداً في الاشتغال المسرحي العربي المعاصر، وهذا ما توضحه الأحداث التي تتراوح بين أفضية مختلفة وأزمنة متذابحة، تتحرك فوق ركحها شخصياتٌ ذات ظلال تاريخيّة وحضارية تصنع أحداثا يحكمها سلطان المأساة المفجع، ويقتادها كاتب فذٌّ مستثمراً مجموعة من التقنيات الفنية الحديثة التي أنارت منافذ النص، وجعلت تيار الوعي ينهمر بكلِّ انسيابيّة.من كلّ ذلك، نتيقّن أن عبد الكريم برشيد قد أفلح فعلاً في معالجة مشكلٍ حضاري بطريقة احتفالية تحترم بنود المسرح الاحتفالي.

تعليقات