منهجيّة القصة: دمٌ ودخانٌ | مبارك ربيع




منهجيّة القصة: دمٌ ودخانٌ | مبارك ربيع




منهجيّة تحليل نصٍّ نثريّ/سرديّ: القصّة




تحليلٌ منهجيٌّ لقصة دمٌ ودخانٌ، مبارك ربيع، كتاب واحة اللغة العربيّة، ص150؛


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية



إعداد الأستاذ: عبدالرحيم دوْدي؛


تعدُّ القصة فناً أدبياً يرتكز على مجموعة من المُكوناتِ والخصائص البنائية والفنيّة التي تتضافر مجتمعةً في تجسيدِ هويتها المتمثلة في اقتناص حقيقةٍ هاربةٍ تنتمي لحقائقِ المعيش اليومي. وبتعبير آخر، فإن القصة، شكلٌ أدبيٌّ غايتهُ التقاطُ جزئية معيشيّة من حياةِ الإنسانِ وصياغتها داخل قالبٍ فنيّ ينهضُ، أساساً، على وحدة الانطباعِ والإيجاز والتكثيف والإيهام بواقعيّة العوالمِ المتخيلةِ. وبهذا، تكونُ القصة، وسيلةً من وسائلِ التعبير عن مراثي الإنسانِ ومسرّاته، بشكلٍ موجزٍ ومغرٍ، يستهوي القارئ ويحثهُ على فعل القراءة.
وقد ظهرت القصة، بالمعنى الحديث في أوروبا وأمريكا، في القرنين الثامن والتاسع عشر، ومن أبرز روادها في العالم الغربي:"غي دو موبسان"، "إنطوان تشيخوف" و"إدغار آلان بو". ثم انتقلت إلى العالم العربي، عن طريق المثاقفةِ والترجمة والصحافة، ولم يكد ينتهي النصف الثاني من القرن العشرين حتى انتشر هذا الفن الأدبي في معظم أرجاء العالم العربي، حيث اضطلع بدورٍ بالغ الأهميّةِ في خدمة القضايا الاجتماعية والقوميّة. ليشهد، بعد مرور ردحٍ غير طويلٍ من الزمن، تنوعاً في الاتجاهاتِ الفنية والتصوراتِ البنائيّة والجماليّة. ومن أهمّ روادِ القصةِ في العالم العربي نلفي: الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، ويحيى حقي ومحمود تيمور، يوسف السباعي، أحمد بوزفور، والأديب المغربي مبارك ربيع، الذي نحن بصدد دراسةِ قصتهِ القصيرة الموسومة بعنوان "دمٌ ودخانٌ"، والمقتطفة من مجموعتهِ القصصية المعنونة بالعنوان نفسهِ، والصادرة عن مكتبة المعارف بالرباط.



أول ما يستوقفنا ونحن نُطالع قصة "دم ودخان"، عنوانُها المثقلُ بالغموض. إنَّهُ عنوانٌ يجمعُ بين عالمين متباينين؛ عالمُ الدماء المكتظّ بدلالة الموت، وعَالمُ الدّخان المزدحمِ بحرائق الوجودِ، ويبدو، أنّ هذين العالمين، رغم تباينهما، يتوشجان في الإحالةِ على المأساةِ، من خلال إِبراقِهِمَا بدلالات الفناء والاندثار. فالدمُ الفائرُ، دليلُ تبدّد الكائنِ الحيّ، والدخانُ أمارةٌ على ترمّدِ الطبيعة واضمحلالها. وبصرفِ النظر، عن دلالاتِ العنوان، فإنه يحبلُ بطاقةٍ تدليليّة تستثير شهيّة القارئ، إذ يربضُ نصٌّ أسفله، قراءةُ بدايتهِ ونهايتهِ، تضعنا حيال مشهدٍ لشخصٍ يدعى دحمان، تظهر عليهِ علائمُ العوز والفقر وتتحامَى وَجهَهُ المتَاعِبُ والآلامُ، وهو يُزمع على شراء كبد غَنَم. وتتميز بداية النص ونهايتهُ، بدينامية سردية كثيفة، تتكئ على استخدام أفعال ذات شحنةٍ حركيّة. وهذه سمةٌ مائزةٌ، تتميز بها أعمال القاص والروائي المغربي مبارك ربيع، الذي يعدُّ من رواد فن القصة القصيرة بالمغرب.
بناءً على كلّ هذه المشيراتِ والمعطيات، نقول، بضربٍ من الافتراض الاستشرافي، إنّ النص عبارةٌ عن قصة قصيرةٍ يُعالجُ فيها الكاتبُ مشكلاً اِجتماعياً ذا ظلالٍ نفسيّةٍ، يؤرق الطبقة الاجتماعيّة الدنيا في المغرب. ومن هنا، نتساءل: إلى أي حد يمثل النص خصائص الكتابة القصصية؟ ما طبيعتهُ الفنية والبنائية؟ وإلى أي درجة استطاع القاصُّ ملامسة جراح الإنسان المغربي الفقير؟


تنطلقُ أحداثُ القصةِ من مشهد وقوفِ "دحمان" أمام مسطبةِ المعلِّم عليٍّ قصد شراءِ كبدِ خروفٍ نزولاً عند رغبة زوجتهِ التي داهمَهَا الوحم من كلّ الجهات. بعد ذلك، تنتقل القصة، بشكلٍ دائري استرجاعي ومفجع، لتكشفَ عن الطريقة التي حصل بها دحمان على المال، فهو رجلٌ فقير، تعوزه أبسط مطالب الحياة، فلم يجد، والحالة هذه، سوى أن يبيع دمه لأحد المرضى مقابل مبلغٍ زهيدٍ؛ لم يحصل عليهِ إلا بعد أخذٍ وردٍّ ونقصٍ وبترٍ. ليعود المسكين إلى منزلهِ، بقلبٍ متعبٍ وروحٍ كسيرة. وتنتهي القصة بمشهدٍ تقدّم فيهِ الزوجة سفود شواءٍ لزوجها "دحمان" الذي أخذ يلوكُ مِزقَ الشواء بذهن مخطوفٍ تفترعهُ صورٌ مؤلمةٌ عن واقعٍ لا يرحم.



وقد انتظمت أحداث هذه القصةِ ضمن خطاطةٍ سرديّةٍ تتجاوز الاستراتجيات الكلاسيكيّة في كتابةِ القصة، فهي تتشيّد على منطقٍ تجربيبي في البناء السردي؛ منطقٌ تجسدُه وضعية بدايةٍ تشي بالاختلال، يحضر فيها دحمان واقفاً عند مِسطبةِ المعلم عليّ، على غير عادته، متعب الروح والجسد، يمضغهُ الكمد مضغاً، ويهرش ذاكرته؛ وتكتسي هذه الوضعيّة الاستهلاليّة طابعاً دينامياً يقود القارئ مباشرةً إلى قلب القصة، التي تكون أحداثها المتعلقة بعُقدتها قد بدأت. أما وضعيّة الوسط فترسمُ صورةً مأساوية للبطل وهو في غرفةِ العمليات، محفوف بأنابيب يتملى قطرات دمه وهي تنهمر في قعر الزجاجة. بينما تضعنا وضعيّة النهاية أمام مشهد "دحمان" وهو يلوكُ كبد الخروف المشوي بألمٍ وذهنٍ تائهٍ في الدخان الكثيف. إنها نهايةٌ تزجُّ بالقارئ في دهاليز التأمل الفلسفي والعقلي من خلال دفعه إلى التوحد بالبطل الشارد في تيهِ اللحظة وضباب الوجود. وبهذا، نكون أمام خطاطة سرديّةٍ تحتكم لقوة تجاذبٍ حدثي، إذ تخضع كلّ من البداية والنهاية لسلطة الاختلال، فتنبسط أمامنا بدايةٌ تتواشجُ مع النهاية في الاحتقانِ والتأجج والتأزم.

ومن هنا، فإن النص، قد احتكم لحبكة قصصية تتجاوز منطق الكتابة القصصية الكلاسيكة، لترسم مساراً سردياً؛  يتكئ على التجريب وإفساح المجال أمام انهمار الذاكرة والوعي. كلّ هذا، بهدف إفحام القارئ وتحريك مكامن التشويق لديه. فضلاً عن ذلك، فقد أضاء مضمون النص، الوضع الأليم لعيّنة اجتماعية من الناس تعيش تحت وطأة أحذية الفقر الخشنة، يتأبطون الألم وينتعلون الجوع. وبهذا يكون القاص قد شخّص مشكلاً اجتماعيّاً مفجعاً تشخيصاً قصصياً دقيقاً وباهراً.

ولتحريك أحداث هذه القصة، لجأ القاص، إلى توظيف مجموعة من الشخصيات (القوى الفاعلة) المختلفة من حيث وضعياتها الاجتماعية والنفسية، ومن أهم هذه الشخصيات نلفي: "دحمان" وهو بطل القصة، يمثّل الإنسان المغربيّ الفقير، متأزمٌ نفسيًّا، لضعف وضعيته المادية، مكدودُ الجسد والروح، شارد اللبّ في جلّ أوقاته. ثم الطبيب، شخصٌ برغماتي، مصاص دماء، لا تهمهُ صحة مرضاه، فرغم عِلمِهِ بصيامِ "دحمان" أقدم على عمليّة مصّ الدّماء. ولدينا أيضاً زوجة "دحمان"، وهي امرأة حامل، تحاماها الوحم، فألحّت على زوجها المعوز أن يحضر لها كبد خروفٍ يطفئ حرّ وحمها. وكذا أهل المريضة التي ستستفيد من عمليّة بيعِ الدماء، والذين يعكسون عينة من المجتمع لا تفي بوعودها، ولا يهمّها سوى تحقيق مصالحها بأقل الأثمان. وفي الأخير، يحضر أطفال "دحمان" كحفنة من الأمل تشدّ دحمان إلى هذه الحياة/ المحنة.



ولأن القوى الفاعلة، تجسد أدواراً عامليةً داخل كل محكيٍّ، كيف ما كان نوعه، لا نرى ضيراً في الوقوف عند البنية العامليّة التي انتظمت هذه القصة من خلال وظائف وبنياتٍ يمكن جردها كالآتي: يتحدّد الفاعل في القصة في دحمان فهو الذات الراغبة في تحقيق موضوعها المتمثل في تلبية حاجيات أسرته، أما المرسل فهو الواجب الإنساني والمرسل إليه أسرة دحمان، بين يتنافر العامل المساعد المتبدي في الاستغلال والدّم مع العامل المعيق المتراءي في التردد والحيرة.
والملاحظ، أنّ هذه القوى الفاعلة، قد جسّدت التنافر الحاصل بين فئات المجتمع، وشخصت هول التردي الأخلاقي الذي يضطرم في أعماق فئات اجتماعيّة متباينة، وهي بذلك ترسمُ صورةً حقيقية لواقعٍ لا نريد الالتفات إليه، ونتغاضاهُ في كلّ الأوقات. وبالتالي، نكون بإزاء دراسة قصةٍ استطاع صاحبها أن يستكنه طبقات المجتمع المغربي في اختلافِ مطامحها.
ولأن كلّ قصة تحتاج لزمن تتحرك في ظلاله أحداثها ووقائعها، زاوج القاص، في محكيّه بين الزمن الفيزيائي الواقعي (وتدلّ عليه في النص مجموعة من المشيرات: منذ الأيام الأولى، منذ سنوات، منذ الصباح) والزمن النفسي الشعوري (وتحيل عليه الحالة النفسية لدحمان أثناء العملية وكذا حالة شروده شبه الدائم الذي كان ينسيه ثقل الزمن الواقعي). فضلا عن كل هذا، فقد وظف الكاتب تقنيات خطابية لتفريغ زمنه داخل هذا المحكي، إذ اعتمد في الكثير من الأحيان، على تقنية الاسترجاع أو "الفلاش بَاك"، التي أتاحت للقارئ العودة مع السارد إلى قاعة العمليات ليكتشف بعض ملابسات القصة التي كانت ستظل متوارية لولا هذه التقنية.


أما المكان الذي دارت فيه أحداث القصة فيتحدد في فضاءين مختلفين، أولها المستشفى، وهو فضاء مفتوح على دلالات متعددة، إنه مكان لتعذيب الناس واستغلالهم، لم تعد وظيفته السهر على صحة المرضى الفقراء والعناية بهم. أما الفضاء الثاني، فهو البيت الذي يشكل الحضن الدافئ الذي يأوي إليه "دحمان" كلّما تحامته وتكالبت عليه مصائب الحياة. ورغم أن البيت هو فضاء الطمأنينة إلا أنّه يُصبح، في بعض الأحيان، شرفة للشرود النفسي والضياع في الوقائع المؤلمة التي سبق وأن عاشها البطل.
هذا الشرود النفسي يبدو جليًّا في الملفوظات الحوارية التي تتخلل النص، والتي تنقسم إلى ملفوظات حواريّة خارجية (حوار دحمان مع الطبيب، مجادلته لأهل المريض للحصول على المقابل المادي لدمه) وملفوظات حوارية داخليّة تعكس حالة الارتباك النفسي المختلج في بواطن السارد وتدل عليه في النص مجموعة من الشواهد نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر (مناجاته لنفسه حين رأى فرحة أبنائه وزوجته، وإخفاؤه حقيقة تناوله وجبه فطور في الصباح والتي ظلت عبارة عن كلمات تحتضر على شفتيه دَفنها بكذبة عدم تناوله لأي شيء.)


وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الملفوظات الحوارية، خارجية كانت أو داخليّة، قد قامت بكبح جماح السرد المتدفق، لتمنح القارئ لحظة تأمل، يتملى فيها أحداث القصة بهدوء وارتياح، فإذا كان السرد تدفقا للأحداث والوقائع بشكل سريع، فإن الحوار هو تجميد لدينامية السرد، وتأملٌ للمحكي خارج إكراهات الزمنية السردية المتدفقة.
وقبل أن ننهي هذا التحليل الشيّق، حريٌّ بنا أن نشير إلى أنّ القاص قد وظف في قصته هذه سارداً محايداً؛ إنَّه ساردٌ لا يشاركُ في أحداث القصة، ولا يغيّر مسارها فعليًّا من خلال المشاركة فيه، بل إنه يكتفي بنقل أحداثها ضمن رؤية عالمة بكل التفاصيل (الرؤية من خلف)، لهذا نجد أنفسنا أمام قصة كلما تدفقت أحداثها توغلنا أكثر في بواطن نفسيّة بطلها المتأزم والمغبون.



وفي المحصلة، يمكن القول، بعد هذه المقاربة التحليليّة، إن مبارك ربيع قد أفلح في بناءِ عالم سرديٍّ متماسكٍ ومتلاحم، يكشف عن مشكلٍ اجتماعيٍّ مؤرق وفظيع بدأ يرخي ظلاله على واقعنا المعيش. هذا المشكل، عبر عنه القاص، باستراتيجيات سرديّة تجريبية تتجاوز منطق السرد الكلاسيكي، وبقوى فاعلة ذات دلالة عميقة، تتحرك داخل زمن متشابكٍ ومكانٍ فائض بالمعنى والمعاناة، يعتلي فيه ساردٌ محايدٌ عرش الحكي، ساردٌ عارفٌ بكلّ التفاصيل والجزئيات. بناءً عليه، نستشف أنّ النص عبارة عن قصة ذات ظلال واقعيّة، تعالج مشكلاً اجتماعيّاً يمسُّ الطبقة الفقيرة من المجتمع ويساهم في احتقانها النفسيِّ وانشراخها الوجوديّ.





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-