اللص والكلاب | الرؤية العبثية لسعيد مهران

نموذج محلل لمقطع من رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ: الرؤية العبثية لسعيد مهران  

مكوّن المؤلّفات

للسنة الثانية من سلك البكالوريا - شعبة الآداب والعلوم الإنسانية

نموذج محلل لمقطع من رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ: الرؤية العبثية لسعيد مهران




يقول سعيد مهران مُخاطباً رؤوف علوان في حوار ذاتي:

(ما أعبث الحياة إن قُتِلت غدا جزاء قتل رجل لم أعرفه، فلكي يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن أقتلك. لتكن آخر غضبة أطلقها على شرّ هذا العالم. كل راقد في القرافة تحت النافذة يؤيدني. ولأترك تفسير اللغز للشيخ علي الجنيدي).

اللص والكلاب، مكتبة مصر – القاهرة، ص: 99.

اكتب في ضوء قراءتك لهذا المقطع الروائي، موضوعاً إنشائيّاً متكاملاً، تضمّنه ما يلي:
-             خصائص الرؤية العبثية للبطل سعيد مهران ومظاهرها المتعددة؛
-             علاقة هذه الرؤية بمختلف المواقف والقيم الفكرية والأخلاقية في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ.


التحليل



يؤطّر كثير من أحداث رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ نسق فكري وفلسفي خاص ينمّ عن رؤية عبثيّة للوجود، حيث تتصادم (أو تتعايش) عدد من الوقائع والشخصيات الروائية كاشفة بذلك عن خليط من القيم والمواقف المتضاربة أو المتفاوتة بين الانحطاط والسمو الفكري والأخلاقي.
-             فما هيّ، إذن، أبرز المظاهر والمحددات الفكرية والأخلاقية لهذه الرؤية العبثية؟ وكيف تنتظم وفقها وقائع الرواية ومواقف أبرز شخصياتها المتصارعة (أو المتعايشة)؟


لقد بدت الرؤية العبثية للبطل (سعيد مهران)، في الرواية، أكثر اكتمالا ووضوحاً إثر خروجه من السجن، واقتناعه بأهمية وضرورة الانتقام ممن سمّاهم الخونة لردّ الاعتبار لنفسه، حيث قضى غدراً أربع سنوات من زهرة عمره وراء القضبان، ولتحقيق ما يتصوره قصاصاً أو عدالة غائبة (أو مفتقدة) في محيطه الاجتماعي ككل. لقد ضاع ماله الذي حصله من احتراف اللصوصية وسرقة دور الأغنياء وقصورهم. أما زوجته؛ أو بالأحرى طليقته (نبوية) فقد قررت الزواج من معاونه السابق (عليش سدرة)، وكذلك ابنته الصغيرة سناء؛ فقد جفلت منه لما سعى إلى زيارتها وأعرضت عن لقائه... هكذا صارت أموره: لا مال، ولا عمل، ولا مستقبل... فلا بيت يأويه، ولا أسرة تحتضن ضياعه ووحدته. ولذلك كلّه تغيم الرؤية في عين السجين السابق، وتتزاحم أمام ناظريه الصور والمتناقضات التي تؤججها الذكريات المريرة. لذلك غدت الحياة من منظوره مثالا للاجدوى وغياب أي معنى أو علة للوجود فسقطت وتردّت إلى هاوية العبث، وصارت الأحاسيس النبيلة والقيم الإنسانية والأخلاقية؛ كالحب، والعدالة، والإيمان، والحرية... مجرد كلمات جوفاء لا تجد من جانبه غير السخرية والازدراء.


وحتى الذين تعاطفوا مع قضيته من الفقراء والضعفاء وعموم الناس لم يسلموا من سخرية هذه التعليقات حينما بدت له محدودية إدراكهم وقصور فهمهم لما يتخبّط فيه من عذاب ومعاناة، وعجزهم عن مساعدته. ولذلك صبّ البطل جام نقمته وكرهه على الجميع: الأغنياء، القضاة، البوليس، الكلاب... إلخ؛ فالعدالة أو القضاء مثلا في نظره قد بات في صفّ الخونة يخدم مصالحهم ويدافع عنها، بل والأغرب من ذلك أن ضحاياه من الضعفاء والأبرياء هم وحدهم من يحقّ لهم الإدلاء بشهاداتهم (لصالحه طبعاً). وكذلك الشأن بالنسبة للصحافة التي جندت – حسب تصوره – كلّ أقلامها ومنابرها وأبواقها، بإيعاز من صديقه السابق الصحفي (رؤوف علوان)، لتشنّ عليه حملاتها وتكيل له الاتهام تلو الاتهام. لذلك يطالبه صديقه (المعلم طرزان) بالاختفاء إلى حين.

لذلك يصل بطل الرواية سعيد مهران، في مسعاه، إلى الباب المسدود لمّا يدرك أن الحياة والموت هما معاً على السواء في خدمة حفنة من الأغنياء والخونة والانتهازيين؛ فرصاصاته الطائشة لا تصيب إلاّ الفقراء والتعساء والأبرياء (شعبان حسن، بواب رؤوف علوان)، وهو ما يفقد عقله ما تبقى من صواب (إن كان ثمة صواب أصلا)... ولا يجعله عرضة للوم ومؤاخذات بعض المتعاطفين مع قضيته فقط، بل ومادة لتسلية البعض الآخر وتزجية لأوقات فراغه أيضا. وينضاف إلى هذه المفارقات الساخرة أنه استبدل بعد طول تخبّط ومعاناة سجناً بآخر؛ ذلك أن الإفراج عنه من سجن الحكومة لم يعن إطلاقا معانقته للحرية وتمتيعه بسراح لا مشروط إذ أن تورطه مجددا في الجريمة ومسارعته إلى إطلاق الرصاص على ضحاياه قد جعل منه إنسانا في حكم الحيّ الميّت أو الميّت الحي... بحيث بات رهين محبسه في حجرة نور لا يفارقها إلا لساعات ليلية معدودة، على سبيل الاحتراس واليقظة، خشية السقوط من جديد في قبضة البوليس. ومن ثمة فهو يعاني عذاب الوحدة على نحو شديد، وخاصة لما تضطر صاحبة البيت نور، تحت وطأة ظروف العمل، إلى الغياب عن بيتها لوقت طويل. وفي ضوء مطاردة قوات الشرطة اللصيقة به وحصار كلابها الخانق لم يجد بدا من الاستسلام بعد أن انكشف أمره وبانت نهايته نهاية عبثية عند قبور القرافة، بالقرب من بيت نور السّابق الذي حل به ساكن جديد، لذلك ما انفكّ يطلق الرصاص من مسدسه على غير هدى ولا هدف قبل أن يستسلم بلا مبالاة.


باختصار شديد، يمكن القول إن الرؤية العبثية للبطل سعيد مهران في الرواية ترتكز على مجموعة من المفارقات والتناقضات الفكرية والأخلاقية التي تتوزع ذاته؛ كالعدالة والظلم، والحقيقة والزيف، والقوة والعجز، والصواب والخطإ..إلخ، بحيث تتجاوز هذه الرؤية ذات البطل، إلى ما هو موضوعي لتشمل مختلف مظاهر الحياة في محيطه، بل والوجود ككلّ.  



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-