تحليل نصّ حداثة النصّ... حداثة الرُّؤْيا، علي جعفر العلاق



منهجيّة تحليل نصٍّ نظريّ: تجدِيد الرُّؤْيَا


 تحليل نصّ حداثة النصّ... حداثة الرُّؤْيا، علي جعفر العلاق

منهجيّة تحليل مقالة أدبيّة / نصٍّ نظريّ: تجدِيد الرُّؤْيَا


المرجع: حداثة النصّ... حداثة الرُّؤْيا، علي جعفر العلاق، الممتاز في اللغة العربية (السنة الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانيّة، ص 107


   للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية                                              




تقتضي طبيعة العمل الأدبي الرّاقي أن يُقدّم نظرة شاملة ومُستقبليّة للحياة، وأن يستوعب كلّ اختلافاتها وتناقُضَاتِها، كما يتعمّق في بواطنها... غير مكتف بما هوّ واقع وقائم فقط، بل مُتطلّعاً أيضاً إلى ما هو ممكن ومُتجاوز لحدود الزمان والمكان. ومن ثمة تصهر الرؤيا الشعريّة في بوتقتها خصوصيات الذّات الفرديّة والجماعيّة، وتجعل منها ذاتاً واحدة، وكياناً عضوياًّ مندمجاً بعضه في بعض. بهذه الصفة تمثّل الرؤيا وجهاً آخر للحداثة الشعريّة، بالإضافة إلى تكسير البنية. وبحكم ارتباطها الوثيق بموضوع الحداثة، فقد حرص الشعراء على حضورها في تجاربهم وإبداعاتهم، كما واكبها الكتّاب في تنظيراتهم ونقودهم. ويعدّ الدكتور علي جعفر العلاق، وهو شاعر وناقد عراقي، من طليعة الكتاب الذين اهتموا بهذا الموضوع، وذلك من خلال مجموعة من المؤلّفات نذكر منها: دماء القصيدة الحديثة، في حداثة النصّ الشعري...


إنّه بمجرّد قراءتنا لعنوان النصّ (حداثة النصّ... حداثة الرؤيا)، وللجملة الأخيرة من الفقرة الأولى منه (الرؤيا الحديثة التي تجسّد فعل التجديد حقّاً)، نستطيع أن نفترض أنّنا بصدد نصّ نظري يُعالج فيه الكاتب موضوع "الرؤيا الشعريّة".

إذن، ما هي القضيّة الأدبيّة المحوريّة التي يعالجها النصّ؟ وما هي العناصر الفرعيّة المكوّنة لها؟ وما هي الطريقة المنهجية والأساليب الحجاجية المعتمدة في عرضها؟  وإلى أيّ حدّ تمكّن الكاتب من خلالها رسم ملامح الرؤيا الشعرية في القصيدة الحديثة؟



لقد استهلّ الكاتب نصّه بالحديث عن الرؤيا الشعرية باعتبارها أهمّ إنجاز على مستوى حداثة القصيدة العربية، ثمّ انتقل بعد ذلك للحديث عن علاقة هذه الرؤيا بالشاعر المبدع، وبالقارئ المتلقي، وبالواقع المعيش، مشيراً إلى شروط نضجها وارتقائها للمزج بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وامتدادها لتشمل أعمال الشاعر كلها، بالإضافة إلى ارتباطها بمجموعة من الرموز والأساطير الشخصيّة، ممثلاً لذلك ببعض النماذج من الشعر العربي المعاصر.


يتبيّن إذن من خلال هذا النصّ أنّ الكاتب يعالج قضيّة أدبية هي "الرؤيا الشعرية في القصيدة العربية الحديثة"، وتتضمّن هذه القضية عنصرين أساسين هما:
-               أهميّة الرؤيا في الشعر الحديث، وذلك باعتبارها تمثّل الجوهر في قضيّة التجديد في الشعر العربي وفي الشعر العالمي كله عموماً؛
-               خصائص الرؤيا الشعرية في القصيدة الحديثة، وتتمثل هذه الخصائص فيما يلي:
*                    إنّها تُعنى بتجديد الشاعر أولا، قبل أن تعنى بتجديد النصّ؛
*                    إنّ الشاعر من خلالها يسعى إلى تقديم صورة لوعيه بنفسه من جهة، وللعالم الذي يعيش فيه أو يعيشه من جهة أخرى؛
*                    إنها سعي دائم لرؤية الشيء ونقيضه؛
*                    إنها توق وتساؤل دائمان، ومسعى في اتجاه أجوبة أشدّ إقلاقاً؛
*                    إن نضجها مرتبط بعذاب المعاناة وعذاب المعرفة؛
*                    إنها تجعل من التجربة الذاتية تجربة جماعية والعكس صحيح؛
*                    إنها تمتدّ عبر أعمال الشاعر كلها؛
*                    إنها ترتبط بمجموعة من الرموز والأساطير الشخصية للشاعر.





وقد استعمل الكاتب مُعجماً يتوزّع بين أربعة حقول دلاليّة، هي:
-حقل الرؤيا الشعريّة: (الرؤيا الشعرية-الرؤيا الحديثة-فعل التجديد-رؤيا شعرية-مشروعا لرؤيا-شعرية هذه الرؤيا-الرؤيا الراسخة...)؛
- حقل الشكل الشعري: (الثراء الجمالي-حيوية الشكل-استطرادات-منهج شعري-شكل تعبيري...)؛
-حقل الشاعر: (تجديد الشاعر-وعي-ثقافة-نظرة إلى العالم-عناء ومكابدة-عذاب المعرفة- وتر منفرد- حرارة فردية- همّ شخصي- رموز شخصيّة...)؛
- حقل المجتمع: (الواقع-أنين عام-أنين البشر-الهم العام-صوت إنساني-شأن عام-قضية جوهريّة...).
والعلاقة بين هذه الحقول متداخلة، حيث يكمل بعضها بعضاً، فالرؤيا الشعرية تظلّ ناقصة ما لم يساندها شكل تعبيري جديد متميّز، والرؤيا أيضاً لا ترتبط بذات الشاعر الفردية فحسب، بل هي رؤيا جماعية يحاول الشاعر من خلالها الانصهار في هموم المجتمع وقضاياه.


وقد استَند الكاتب في تحليله للرؤيا الشعرية على مرجعيات مُختلفة، حيث تحضر المرجعية الاجتماعية، سواء من خلال إحالة الكاتب على مفهوم "رؤية العالم" للوسيان غولدمان، أو من خلال ربطه في سياق الرؤيا الشعريّة بين الشاعر وبين المجتمع وقضاياه، كما حضرت المرجعيّة النّفسيّة من خلال استحضاره لبعض مصطلحات علم النّفس كـ"الأسطورة الشخصيّة"، التي صاغ مفهومها العالم النّفسي شارل مورون، ومن خلال ربطه بين الرؤيا الشعريّة، والمُعاناة النّفسيّة للشاعر.
وتوسّل الكاتب في عرض القضيّة السالفة بناءً منهجيّاً يقوم على الطريقة الاستنباطية، حيث انطلق من تحديد المفهوم العام (الرؤيا الشعرية)، ثم انتقل بعد ذلك إلى تحليل مختلف تفاصيله وجزئيّاته وتجليّاته.


أمّا بخصوص توضيح الأفكار ومُحاولة إقناع المتلقي بصحّتها، فقد عمَد الكاتب إلى توظيف مجموعة من وسائل التفسير والحجاج، نحدّدها كالتالي:
-               التعريف: وهو ما نلمسه في تعريف الكاتب للرؤيا الشعريّة، حيث يقول: "وتشكّل الرؤيا الشعرية في حقيقة الأمر، مسعى يستهدف الشاعر لا القصيدة؛ أي أنها تعنى بتجديد الشاعر أوّلاً: وعيا وثقافة..."؛
-               المقارنة: ونلمسها في مقارنة الكاتب بين موقفين يرتبطان برؤية الشاعر للواقع، حيث يقول: "فحين يحجب الموقف الأوّل ما في الواقع من حيوية ونبل كامنين، لا يتيح لنا الموقف الآخر أن نرى ما قد يتفجّر تحت بنائه الظاهري من تصدّع ونفاق..."؛
-               الاستشهاد: ويبدو ذلك في استشهاد الكاتب برأي أدونيس الذي يشير فيه إلى ضرورة المواءمة في الرؤيا الشعرية، بين الهم الخاص والهمّ العام، وهذا الرأي مأخوذ من كتابه "مقدمة في الشعر العربي..."؛
-               التمثيل: وهو ما نلاحظه حينما يلجأ الكاتب إلى تقديم أمثلة فيما يخصّ شعراء الرؤيا في الشعر العربي الحديث، فيذكر السياب، والبياتي، وأدونيس، كما يسوق أمثلة تتعلّق برموزهم الشخصيّة...


ويتعزّز البعد التفسيري والحجاجي في النصّ كذلك باللجوء إلى اللغة التقريريّة المُباشرة، وهي لغة تميل إلى البساطة في التّعبير، وتبتعد ما أمكن عن الإيحاء والالتواء في اللّفظ، وهذا راجع إلى الطابع الموضوعي للنصّ الذي يستلزم توضيح الفكرة أكثر من العناية بجمال الصياغة.


استناداً إلى كلّ ما سبق، نستنتج أن الكاتب يُعالج في النصّ مفهوماً أدبيّاً هو مفهوم "الرؤيا الشعريّة" الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ حداثة النص الشعري لا تتحقّق إلاّ من خلاله، كما نستخلص أن منبع هذه الرؤيا لا يخرج عن ثلاثة أشياء: الشاعر باعتباره ذاتا واعية بنفسها وبما حولها، وقادرة على محاورة الواقع وخلخلته، والإجابة عن أسئلته المقلقة، والتعبير عن كلّ ذلك بوسائل فنيّة خاصّة.ثم الواقع باعتباره بؤرة للقلق والحركة والتردد والتناقض. وأخيراً الشاعر والواقع معاً في تفاعل مستمر، وتأثير أحدهما في الآخر، واحتضانه له.


وقد اعتمد الكاتب في عرضه لقضيته مرجعيات نقدية ومعرفية متعددة أهمها: المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي، كما وظّف، في بناء النصّ، القياس الاستنباطي الذي يتدرّج من الكلّ إلى الجزء. أمّا وجهة نظره في الموضوع فقد وضّحها ودافع عنها باعتماد أساليب تفسيرية وحجاجية تتوزع بين التعريف والمقارنة والاستشهاد والتمثيل، ناهيك عن الاستعانة باللغة التقريريّة المُباشرة. كلّ هذا يبيح لنا القول إن الكاتب قد نجح، إلى حدّ كبير، في تقديم تصوره النظري حول الرؤيا الشعرية، وتوضيحه والدفاع عنه، رغبة في إقناع المتلقي به.  








حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-