قيمة مؤلف ظاهرة الشعر الحديث
القراءة
التركيبية لمؤلَّف "ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد
المعداوي المجاطي
استنتاجاتٌ وخلاصاتٌ
يتناول
النّاقد أحمد المعداوي المجاطي في هذا المؤلف موضوع الشعر الحديث، أو ما اشتهر عند
الدارسين بالشّعر الحرّ أو شعر التفعيلة، تناولاً خاصّاً، مُعتبراً إيّاه النّموذج
الشعري الذي تمكن من استثمار الهزائم والنكبات لصياغة جمالية مضامينه، والقطع مع
النموذج العربي التقليدي الذي حال من قبل دُون انعتاق الشّاعر العربي من النموذج
الشعري المحافظ. ويتكون هذا الكتاب من أربعة فصول، فضلاً عن مدخل وخاتمة. وقد
انطلق الناقد من مسلمة أساسية مفادُها أن تطوّر الشعر العربي رهين بتوفر شرطين
أساسيين، هُما: الاحتكاك بالثقافة الأجنبية وشرط الحرية، وبناءً على هذين الشرطين،
عرف الشعر العربي حركتين تطوريتين:
الحركة الأولى: هي حركة التيار الذاتي وكان التطور فيها
تدريجيّاً وبطيئاً نظراً لتوفّر شرط الاحتكاك وغياب شرط الحرية، وقد نشأت هذه
الحركة في ظروف خاصة وحاولت بشتى الوسائل فرض نموذجها الشعري وذلك اعتماداً على
الآليات والوسائل التالية:
ـ
اعتماد النزعة الذاتية في كتابة الشعر والنظر إليه، معتبرة الوجدان مصدر كل إبداع،
والتجربة الذاتية مرآة الشعر، وتجسيداً للمعاناة والألم واليأس؛
ـ
النزوع إلى التصوير البياني الذي مكّن الشعراء من توظيف الصور الشعرية توظيفاً خاصّاً
يلائم تجاربهم الذاتية وأحاسيسهم وأحلامهم؛
ـ
الاعتماد على تقنية الجمع بين البحور وتنويع القوافي، وذلك لتوطيد الصلة بين الشعر
من جهة وبين الأحاسيس من جهة أخرى.
لكن
هذه الحركة لم تصمد أمام ضربات المحافظين، وكانت نهايتها محزنة على مستوى الشكل
والمضمون.
الحركة الثانية: حركة الشعر الحديث، كان فيها التطور قويّاً
وعنيفا نظرا لتوفر الشرطين معا، شرط الاحتكاك وشرط الحرية نتيجة النكبة الفلسطينية
التي زعزعت الوجود العربي التقليدي المحافظ، وبالتالي نشأت وترعرعت هذه الحركة
متصلة بواقعها، منفتحة على مشارب معرفية متنوعة، متفاعلة مع عينة من التراث الشعري
القديم وفق رؤية نقدية متبصرة. وقد بنت هذه الحركة الشعرية نموذجها اعتماداً على
مجموعة من الخصائص والوسائل:
ـ الخصائص: تنويع مصادر الشعر، إعادة صياغة ماهية
الشعر، صياغة موضوعات شعرية جديدة تمثلت في موضوعين كبيرين: الغربة والضياع،
الحياة والموت.
ـ الوسائل: استثمار النفس التقليدي في الشعر، الانزياح
عن التعابير المألوفة والمتداولة، استخدام صور شعرية جديدة قائمة على الانزياح
والرمز والأسطورة، تبني التشكيل الموسيقي الجديد ( الإكثار من الزحافات وتنويع
الأضرب والمزج بين بحور مختلفة والاعتماد على نظام التفعيلة، وإعطاء القافية وضعاً
جديداً لتخليصها من طابعي التكرار والرتابة، وحرية التصرف في التفعيلة داخل الأسطر
والجمل الشعرية).
بنيةٌ حجاجيةٌ عتيدةٌ
اعتمد
المجاطي بنيةً حجاجيةً عتيدةً من أهم معالمها: الاهتداء بالاستدلال الاستنباطي
المُتدرج من العام إلى الخاص، وإعمال المقارنة كآلية يرادُ بها الكشف عن مظاهر
التشابه والاختلاف، والاستشهاد بأقوال كثيرة لمبدعين ونقاد ودارسين عرب وغربيين،
قصد إحداث الأثر المرجو على عقل المتلقي، وضرب الأمثلة الملائمة لسياق التحليل.
وهي، في الغالب الأعم، مقاطع أونصوص شعرية منتقاة من مظانها.
تكاملٌ منهجي
توسل
المجاطي في دراسته لظاهر الشعر الحديث بمجموعةٍ من المناهج النقدية المنصهرة في
بوتقة واحدة، الأمر الذي يحيل إلى التكامل المنهجي الفريد الذي يتميّز به هذا
الكتاب فهو لا يوظف منهجاً واحداً في دراسة كلّ الوقائع، بل
يميل إلى تحليل كلّ واقعة بمنهج يناسبُ خصوصياتها ومن المناهج النقدية التي وظفها
الناقد:
·
المنهج التاريخي: والذي يتمثل في عرض الظروف والأحداث
التاريخية التي رافقت نشأة الشعر العربي الإحيائي والوجداني والحديث، مع اعتبار
الوقائع الخارجية فاعلة في تصور الشعراء لموضوعاتهم.
·
المنهج الاجتماعي: والذي يتجسد في ربط التجارب الشعرية
ببيئات الشعراء، واعتبار الشعر استجابة
لما كانت تمور به الساحة من متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية.
·
المنهج النفسي: الذي يتعامل مع تجربة الشعر العربي بوصفها
تعبيراً عن أحوال نفسية مرّ بها المبدع في حياته؛ إنه منهج يربط النص الإبداعي
بالتقلبات النفسية لمُؤلِفه.
·
المنهج الموضوعاتي: وظفه الكاتب في تفييء تيمات الشعر الحديث
خصوصا حين تحدث عن تجربة الغربة والضياع مقسماً إياها إلى أقسام وأنواع.
لقد وظف المجاطي في كتابه مناهج نقديةً
متعددة، انصهرت ضمن ما يمكن أن نسميه بالمنهج التكاملي، وهذا يعني أنه يملك عدة
منهجيّة موسوعيّة ورحبة وقادرة على تحليل الظاهرة الأدبية من منطلقات مختلفة.
التحليل الذري للشعر
يتميز كتاب ظاهرة الشعر الحديث بمعالجة النصوص الشعريّة
اعتماداً على مداخل معجمية وتركيبية ودلالية وإيقاعية وتأويلية. ويضطر صاحبه، في
كثير من الأحيان إلى تَذْرية (atomisation) وتفتيت القصيدة إلى
أصغر مكوناتها بغية الوصول إلى نواتها الدلالية أو إصدار حكم نقدي يعزز أقوال نقاد
أو يفندها.
قيمة الكتاب
وتكمن
قيمة الكتاب العلمية والأدبية والنقدية، في كونه أحاط بالشعر العربي من كل جوانبه
وتتبع الانعطافات الكبرى التي مرت بها القصيدة العربية، وفق رؤية متبصرة ونظرية
واضحة، فضلاً عن التكامل المنهجي والتحليل الذري للشعر. وعلى الرغم من قيمة هذا
الكتاب، إلاّ أنّه سقط في بعض الأحكام التعميمية وخضع في بعض الأحيان لمقاييس
ذاتية انطباعية تحت دافع إديولوجي ذاتي شخصي، والدليل على ذلك تراجع الكاتب عن
أحكامه النقدية في كتابه أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث.