تحليل نصّ قصيدة الرؤيا / أدونيس




منهجيّة تحليل نصٍّ نظريّ: تجديد الرّؤيا


 تحليل نصّ قصيدة الرؤيا / أدونيس

منهجيّة تحليل مقالة أدبيّة/ نصٍّ نظريّ: تجديد الرّؤيا                                                                                     
  إنجازُ الأستاذ: عبد الرحيم دوْدي                                                                       

المرجع: قصيدة الرؤيا/ أدونيس، واحة اللغة العربيّة، (ص105)؛


        للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


لم يكتفِ الشّاعرُ الحديث بتكسِير بنية القصيدة العربيّة القديمة، وتجدِيد قالَبِها الشكليّ بما يتسَاوق والتغيّرات الطارئة على مجتمعه. بل إنّه، عمَد إلى تجديد رُؤْيا هذا الشّعر، من خلال انفتاحه على التّجربة الشعرية الكونيّة انفتاحاً قوامهُ التلهّف الحالم لإعادة تشكيل المعطى الواقعي، تشكيلاً استشرافياً مسكوناً بالتصوف ومشوبًا برغبة محمُومة للانغماس السوريالي في الذات والعالم قصدَ التطلّع للمُستقبل وفقَ تصوّرٍ عَميقٍ يكشفُ المتناقضاتِ، ويَسْتَغور الأشياء والوقائع باحثاً في جوهرها المتواري.
ومن هُنا، فقد كانت قصيدة الرؤيا تستحضِر الأبعاد الفردية والإنسانيّة في تماهيها الوُجودي، وتنظر إلى عالم المحسوسات نظرة تأمليّة ترُوم من خلالها إعادة تشكيل العالم وتكوينه شعريّاً، بطريقة لا تستنسخ الواقع وإنما تعيدُ إنتاجهُ بشكلٍ يستشرف الآفاق الملتبسة.


لهذا، بادر الشّاعر المجدّد، المسكُون برؤيا التّشكيل الخلاّق، إلى تحطيم أبنية الزمان والمكان في قصيدته واعتمد السّرد الصوفي المُؤَسْطِر، ومال إلى الرموز والأقنعة، والارتكاز على الخلفيات الإيديولوجية الواضحة والمضمرة والمبطنة في تجربته الشعورية، فقد أيقن بأنّه مُطالبٌ من خلال رؤاه بالعمل على كشفِ الانفعالات والمشاكل الجديدة، والبحث في أفق إنسانيٍّ رحبٍ، وبمعايشة عميقةٍ للقلق الذي يعدُّ حافز الإبداع، ومولد حرارةِ الخلق الفني.
ومن الشعراء الذين تجشّمُوا مُهمة تجديد رؤيا الشعر العربي بارتياد آفاقه الملتبسة، الغامضة، والخفيّة نجدُ على سبيل المثال الشاعرين العراقيين بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ثم الشاعر اللبناني أنسي الحاج، ثم الشاعر السوري الكبير أدونيس الذي اجترح هذا الاتجاه الشعري تنظيراً وتطبيقاً، وهذا ما سنتعرفُ إليه في مقالتهِ هذه الموسومةِ بعنوان "قصيدة الرؤيا".

ويبدُو من خلال النّص الماثل أمامنا، والموسوم بعنوان "قصيدة الرؤيا"، وهو بالمناسبة عنوانٌ يحيل إلى مرحلةٍ جديدةٍ في الخلقِ الشعري، مرحلةٌ استنفدت حدود الكائن وتتحرّقُ شوقاً لمعانقةِ أفق شعري رؤيوي جديدٍ بكلّ التباساتهِ وفضاءاته ومَسالكه الملتويّة، إنّنا بإزاء مقالةٍ أدبيّة ذاتِ منزعٍ تنظيري، وهذا ما تؤكّدهُ الفقرتين الأولى والأخيرة من النص، اللتين خصّصهُمَا النّاقد أدونيس للحديث عن شعر الرؤيا بما هو قفزٌ خارج المفاهيم البالية والمهترئة وتغييرٌ لنظام الأشياء مؤكداً أنّ الرؤيا هي تنزّهٌ عن الشروط الشكليّة.
وليس يخفى على ذي اطلاع نقديّ، أنّ أدونيس، من النّقاد العرب الأوائل، الذين كان ديدنهم البحث في الآفاق المعرفية للإبداع الشعري العربي تنظيراً وتطبيقاً. وقد ألفّ في هذا المجال العديد من الكتبِ نسوق منها على سبيل المثال: "الصوفية والسوريالية"، "زمن الشعر"، وهو الكتاب الذي اقتطف منه النص الذي نحن بصدد دراسته.


بناءً على ما سبق، نفترض أنّ النّص عبارة عن مقالةٍ أدبيّة مسجُورةٌ بروحٍ تنظيرية، يطمح من خلالها النّاقد إلى توضيح مُلابسات تجديد الرؤيا في القصيدة الحديثة، وما حملته هذه الرؤيا في أعطافها من أبعاد إستطيقية. فإلى أيّ حدّ يا تُرى يمثّل النص خصائص الكتابة المقالية التنظيرية؟ وما القضية التي يطرحها؟ هل فعلاً يجسّدُ شعر الرؤيا أفقاً إبداعياً جديداً؟ وما الإطار المفاهيمي والمرجعي الذي يستند إليه النص؟


يتمحور النص حول قضيّة عامةٍ مُؤدّاها تعريف أدونيس لشعر الرؤيا موضحاً بأنه شعرٌ يقفز على المفاهيم الرّثة والبالية. يقفز على العقل ونظامه الصارِم لاجئاً إلى الخيال الخلاّق والرُّوح المتمرّدة. إنّه شعر القلق والشّك والريبة، شعرٌ يخترق المألوف ويصدر عن حساسيّة ميتافزيائيّة. ويمكن مفصلة هذه القضيّة العامة إلى خمس قضايا جزئيّة. خصّص النّاقد أوّلها للحديث عن بعض مُقوّمَات قصيدة الرؤيا راسماً إيّاهَا في الثبات والديمومة؛ فالشّعر الحقيقي هو ذلك الذي يعزف على الجوهر الأزليّ في الإنسان. أمّا القضية الثانية فتتراءى في كونِ أنّ شعر الرؤيا يربأ عن توصيف الواقع توصيفاً يرتكن للنثر العادي، بل إنّه يفرغ الكلماتِ من ظلامها الأصلي ويودعها رموزاً غير مألوفة. بينما ينبري الناقد في القضية الثالثة للتأكيد على أنّ الشعر العظيم هو الذي يستبطنُ رؤيا عميقة للعالم، شعرٌ لا يخضعُ لإرغامات المنطق ويُعيد تشكيل العالم تشكيلاً عالِماً. ومن ثمة أقرّ في القضية الرابعة، بأن ديدن الشعر هو الغوص في سراديب الوجود والبحث في خبايا الموجودات، لينتهي في القضية الخامسة إلى التشديد على ضرورة تلافي النّزعة الخطابية في الشعر لأنّها تشي بالارتهان للقديم في حين أنّ الشعر هو كيفيّة في الوجود وتصورٌ فنيّ يتعالى على الشروط الشكليّة.




والحاصل، أنّ هذه القضايا، التي ناقشها الكاتب بدقة، وأوغل في تفكيكها، هي قضايا عامة؛ إذ لم يوظّف الكاتب ترسانة نقدية مترعة بمفاهيم إجرائية تروم تحليل نصّ بعينه، بقدر ما نحا نحواً تنظيريا عاماً، الهدف منه كشف مقومات تجديد الرؤيا في القصيدة الشعرية العربية الحديثة، الأمر الذي يجعلنا نتيقّن من أن النص قيد التحليل مقالةٌ أدبية نظرية (أو تنظيريّة).
تبعاً لذلك، فقد نهض النّص على جهاز مفاهيميٍّ صلدٍ ومكين، ينُوس بين السجل الاصطلاحي الفلسفي والسجل الاصطلاحي النّقدي، ومن المصطلحاتِ الدّالة على الجهاز المفاهيمي الأوّل نسوق على سبيل المثال: الكشف، ميتافزيائية، الخيال، الحلم، المعرفة، الديمومة، الثبات، الرؤيا المنطقيّة، كيفية الوجود...أمّا المصطلحات الدالة على الجهاز المفاهيمي الثاني فيمكن تحديدها فيما يلي: التفكّك البنائي، القصائد المعاصرة، الصورة، الرمز، تشققاً في هيكلها ووحدتها، الشروط الشكليّة.
ومن هنا، نستشف أنّ العلاقة الرابطة بين هذين الجهازين المفاهيميّين علاقةُ ارتباطٍ وتواشجٍ، فكل عملٍ نقديٍّ يتكئ على خلفيّة فلسفية، لهذا لا نرى غضاضة في أن يعمد الناقد إلى استقاء بعض المصطلحات الفلسفية وتوظيفها لشرح قصيدة الرؤيا والتي لا يمكن أن تكون سوى أفق شعري يتماهى في تضاعيفه النقد بالفسلفة داخل بوتقة لا تتصدع أو تنبعج. فضلاً عن ذلك، نلاحظ أنّ هذا الجهاز يوظّف مصطلحاتٍ توظيفاً نظريا غايتهُ الكشف عن خصائص اتجاه شعري لا تحليلُ نماذج شعرية مخصوصة، وبالتالي فهذا مؤشر جزئي على طبيعة النص المقالية النظرية.


وقد استند أدونيس في بناء نصّهِ على أطر مرجعيّة مختلفةٍ ومتعدّدة ومُتضَافرة أيضاً، شكّلت خلفيّة معرفية مُخصبة لأفكاره ورؤاه، فكانت مدداً فكرياً غنياً يثري النص ويضفي عليهِ طاقةً إقناعية جبّارة، ومن هذه الأطر المرجعية نجد مثلاً التصوف والذي يحضرُ في رغبة الشاعر الرؤيوي في تجاوز الكائن ومعانقة الممكن، ثم السريالية وهي اتجاه شعري ظهر في فرنسا مع أندري بروتون وهدف إلى إلغاء مساحات تحرّك العقل وإفساح المجال أمام الحلم والخيال باعتبارهما الشرر القادح للهيب الإبداع، ثم لا ننسى الإطار المرجعي الثالث والمتبدّي في الاتجاه الوجودي الذي طعّم به النّاقد نصه ناهلاً من أقوال أهمّ أعلامه.
ويبدو لنا، من خلال هذه الخلفيات المرجعيّة، أنّ أدونيس قد تشبّع بالثقافة الفرنسية، ذلك أنّ نصهُ يتحرك فوق ركح المنجز الفكري الفرنسي المتمثل في أعلام السوريالية والوجودية، وهذا مؤشرٌ على المثاقفة الفكرية التي أقحمت الشاعر العربي الحديث في دوائر التجديد والاجتراح والانعتاق الإبداعي الرؤيوي.


واتكاءً على هذا، فقد لجأ الكاتب في بناءِ نصّه إلى خُطّةٍ منهجية دقيقة، متوالجة الأجزاء، إذ انطلق من مقدّمة عامّة أطّر فيها موضوعه، بعد ذلك انتقل إلى العرض ليقف عند أهم الخصائص المضمونية والشكليّة لقصيدة الرؤيا، منتهيا في الأخير إلى خاتمة ركّب فيها نتائج التحليل. كلّ هذا من خلال توسّلهِ بمنهجٍ استنباطي انطلق بموجبه من قضية شاملة حدّد فيها الشعر الرؤيا باعتباره قفزة على المفاهيم الرثة، بعد ذلك طفق يُمَفْصِلُ هذه القضية العامة إلى أجزائها وعناصرها الصغرى، معتمداً في كل ذلك على نظام الفقراتِ المنتاسلة في رحم لغةٍ تقريرية ذات شحنة نقدية واصفة تنأى عن التصوير والانزياح.


وحريٌّ بنا أن نؤكد على أنّ النص جاءَ مترعاً بترسانة حجاجية كثيفة وقوية، ترسانةٌ حجاجية اتكأت على آليات دامغة في البرهنة والتفسير، وهذا ليس زعما باطلاً، بل إنّ الناقد لجأ للتعريف في غير ما مرة، وذلك حين قدّم مفهُوم الرؤيا في الشعر بطريقة لا تخلُو من المخاتلة النقدية؛ فهو يعرّف بطريقة لا تدع للمتلقي مجالاً للنكوص عن الإقرار بجدية التعريف ووجاهته، بالإضافة إلى ذلك وظّف الناقد أسلُوب المقارنة؛ حيث يقارن الكاتب بين شعر الرُّؤيا الذي يقوم على "التَّوليد والخلق ويدركه الخيال والحلم ويتخلى عن الحادثة والجزئية ويتبنى الرؤية العمودية"، وبين شعر الموقف الذي "يقوم على السرد والوصف، ويدركه العقل والمنطق ويقوم على الحادثة والجزئية، ويتبنّى الرؤية الأفقية"، ولعل الهدف من هذه المقارنة هو إبراز خصائص شعر الرؤيا والفرق بينه وبين شعر الموقف، وكذا الانتصار له وتفضيله وبيان تميّزه. والملاحظ في النَّص أنّ الكاتب يكثر من إيراد أقوال لشعراء غربيين ينتمون إلى مدارس مختلفة، وهو ما يدل على تأثُّره بالثقافة الغربية/ الفرنسية، كما يدل على أنّ شعر الرؤيا منشؤه غربيٌّ، ومن هنا نجد أنّ أغلب الحجج الموظفة للدفاع عن الأطروحة هي عبارة عن استشهادات؛ حيث استشهد بأقوال للشاعر الوجودي رامبو والشاعر الرمزي بودلير، إضافة إلى رينيه شار، والهدف من هذه الاستشهادات هو تدعيم الفكرة والانتصار لها والدفاع عن الأطروحة وزيادة التوضيح تمهيداً للإقناع بجدوى شعر الرؤيا.


وفي المحصلة، نودّ أن نشير، بعد هذه المقاربة التحليلية الشائكة والمتوغّلة داخل أدغال التصوّف الشعري، والمقتحمة لأحراش النقد العالِم، إلى أنّ الكاتب قد توفّق في تقريب شعر الرؤيا بعوالمه المخملية للقارئ، رغم غموض طروحاته النقديّة أحياناً، إلا أنّه غموض مردُّه جدّةُ المفاهيم المجترحة، وقد تناسل النص داخل جهازٍ مفاهيميٍّ يتجاذبه النقد والفلسفة، فضلاً عن انبنائه على نسقٍ استدلالي استنباطي متلاحم وواضح المرامي واللغة. من كلّ هذا وذاك، نخلصُ، ونحنُ مطمئنون، تمام الاطمئنان، إلى أنّ النص عبارة عن مقالةٍ أدبية نظريّة تميط اللّثام عن خصائِص قصيدة الرؤيا في الشعر العربي.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-