اللص والكلاب | الخيانة والسقوط الاجتماعي

الخيانة والسقوط الاجتماعي في رواية اللص والكلاب لـ نجيب محفوظ


إعداد الأستاذ: محمد البوعيّادي

للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


الخيانة والسقوط الاجتماعي في رواية اللص والكلاب لـ نجيب محفوظ


 يعني الحديث عن الرواية العربية فيما يعنيه الوقوف على أحد أهم أعلامها وأحد مؤسسي الواقعية الاجتماعية، الروائي نجيب محفوظ، الذي ربّما تُعتبر تجربته الروائية لوحدها تحقيباً كرونولوجيّاً وتقنيا وفنيا لمسار تطور الرواية العربية، فقد تنوع هذا المسار بدءاً من الروايات التاريخية مثل «كفاح طيبة» حيث كان يحاول عكس الواقع الاجتماعي المصري انطلاقاً من الشخوص التاريخيين مؤطرا حمولاتهم التاريخية ضمن نسيج الوقائع والأحداث والرؤية الفنية، مروراً بالرواية الواقعية اللص والكلاب حيث وطّد لمقاربة التفاوت الطبقي وصوّر الحياة في مصر والعالم العربي انطلاقاً منه، وصولاً إلى الرواية الواقعية الرمزية كـالسمان والخريف وأولاد حارتنا التي شكلت منعطفا نقديّاً وإبداعيّاً هامّاً في تاريخ الرواية العربية، لما أثارته من نقاش حول الرمز والمعنى في فعل الكتابة السردية (يُنظر طرح جورج طرابيشي ومناقشته من قبل النقاد)، إن مسار نجيب محفوظ الروائي  إغناء كبير للمكتبة العربية، فهو واكب جميع أشكال الكتابة المستجدة في السرد من الواقعية الانعكاسية وصولاً إلى توظيف تقنيات تيّار الوعي، كما تجلّى واضحاً في بعض رواياته من قبيل ثرثرة فوق النيل حيث يدخل إلى عوالم شخصياته وينبش فيها عن القيم والمشاكل والتصورات الفردية والجماعية للمسؤولية والموت والحياة والالتزام والعبث، لقد كان تراكم هذه التجربة في واقعه تراكما يحسب لصالح الرواية العربية وخادماً لها، لأنّه وطّد لتقنيات الكتابة وبسط تجربته أمام روائيين شباب تعلموا منه، بل هناك من النقاد من ذهب إلى أن نجيب محفوظ مدرسة قائمة بذاتها في السرد العالمي وليس العربي فقط، ما دام قد فاز بجائزة نوبل العالمية. وبالرغم من أن بعض المتذوقين يحاولون تقديمه كعقبة أمام تطور السرد وتأخر ولوج عالم التجريب الروائي، إلاّ أنّ الحديث بهكذا منطق يجعلنا نطرح السؤال: هل تملك المكتبة العربية الذخيرة والمعين الأساسيين والكافيين في الرواية الكلاسيكية حتى؟ فما بالك بالاجتماعية والواقعية والرمزية؟ ألا يجوز أن النظرة التعاقبية لتطور جنس أدبي ما هي نظرة تبحث عن قفزة طويلة دون ساقين قويين؟



مثل هذا الطرح الذي يدعي مواكبة النقد العربي للرواية، ينسى أن مسار تطور الرواية العربية ليس هو مسار تطور الرواية الغربية، تحفل المكتبة الغربية بروايات من كل صنف شكلت هي ذاتها مادة التصنيف والعمل الاستقرائي، فالمسار في النقد العربي شبه مقلوب، اجتلاب المفاهيم التصنيفية ثم تطبيقها على مادة خام ضئيلة أصلاً، وليس بالضرورة تخضع للمعيارية نفسها، هنا بالضبط يصبح دعاة التجريب صبيانيين في تهجمهم على الكتابة الواقعية ذات الخلفية الاجتماعية سواء كانت اشتراكية ماركسية أو غير ذلك، فالأمر أساساً لا يتعلّق بتشرب مناهج النقد الروائي الغربي ثم جعلها سرير بروكستس الذي يُمدَّدُ العمل الإبداعي عليه ويتم قصّ أطرافه ليوافق القوالب النقدية "الجديدة"، يتعلق الأمر أساساً بخلق قنطرة حوار بين الفعل الإبداعي وبين فعل تلقيه وليس "تقويمه" و"إصلاحه". كما أنّ الفعل الإبداعي ليس فعلا كرونولوجيا بحيث يمحي تيارٌ آخرا أو تقنية أخرى، تتعايش مختلف أشكال الكتابة باختلاف  الخلفيات الإيديولوجية والفنية لأصحابها، دونما احتكار بمنطق إقصائي  بحسب "الموضة".
من هذه الزاوية فقط، تبقى مشروعية قراءة النتاج السردي الواقعي والاجتماعي مشروعية نقدية بامتياز، بغض النظر عن مقاربة المناولة، وهنا فقط يبدو نجيب محفوظ أرضية ومنصة للانطلاق نحو التجريب أو غيره وليس عقبة أمامه .

أما روايته اللص والكلاب فقد كتب الكثير عنها من زاوية النقد المدرسي في المغرب ومن زاوية النقد الاجتماعي في المشرق، وكتب آخرون عنها  بوصفها رواية بوليسية فقط، وتتبعوا حبكة السرد وأوجه بوليسية الرواية، وقليلون لمسوا فيها الرواية الاجتماعية التي تقول الواقع الاجتماعي وتبطن إمكانات تجاوزه أو لمسوا البعد الإشكالي للبطل المعاصر بتناقضاته (ينظر شذرات لمحمد شكري في كتابه "غواية الشحرور الأبيض" بخصوص الرواية)، فهي رواية  يمكن وصفها وتصنيفها ضمن مسار الكاتب الإبداعي والفكري على أنها رواية اجتماعية واقعية تنحو نحو الرمزية قليلا، ولعلها بداية اختمار التجربة الواقعية الرمزية في أدب نجيب محفوظ. وقد ركزت في مقاربتي لها على عمل الناقد المصري غالي شكري  المعنون بـ"المنتمي" وهي دراسة في نسق الكتابة السردية عند نجيب محفوظ، ولو أنه في كتابه لم يعط الرواية أهمية كبرى، لكن بعض ملاحظاته الشذرية القليلة تعتبر مادة جيدة لإعادة نقاش رهان الرواية الأساس؛ أي الرهان الاجتماعي التاريخي الرمزي، رهان القيم وصراعها المتجسد في صراع شخوص من ابتكار الخيال ولكن بحبل سري ينبثق من مشيمة الواقع الاجتماعي .
ينتبه الناقد غالي شكري في عمله المنتمي إلى أن رمزية الكتابة السردية في اللص والكلاب ليست كرمزيتها في أولاد حارتنا مثلاً فرمزية اللص والكلاب رمزية واقعية، رمزية يمكن إحالتها إلى الواقع الاجتماعي لأنها تمثله بنسبة ما إن لم تكن – دون  استباق–  تمثيلاً صرفاً لواقع ملموس مع رؤية إبداعية، في حين رمزية أولاد حارتنا رمزية لاهوتية ميتا-تاريخية :
(هكذا نلتقي بنجيب محفوظ يحول القضية الشخصية التي نتعرف عليها في حياة سعيد مهران إلى قضية عامةّ) 1.
وتبعا لتحويل هذا المسار السردي إلى صورة ترميزية للواقع تتخذ باقي عناصر الرواية بما فيها الشخصيات المسار ذاته، بحيث تصير الشخوص والأحداث تركيزا سرديا ودلالات عامة تحيل على الواقع الخارجي الاجتماعي أساسا، ولكن  هذا السرد إذ يقدم  الأحداث ويربطها في شبكة العلاقات التي تنشأ بين الشخصيات لا ينسى أن يقدم لنا بروفايلات اجتماعية متنوعة تبعا لتنوع بنية المجتمع بعد الثورة، أو بلغة أنسب بعد فشل مشروع الثورة، يجمع هذه البروفايلات سلك الخيانة والسقوط الاجتماعي.

لقد كان لتغيير مسار الثورة أهمية كبيرة جدا في نسج النص وضبط علاقات المكونات داخله، خصوصاً الشخوص وعلاقاتهم بالمبادئ والمواقف السالفة واللاحقة لفشل المشروع الثوري، فشل ثورة الضباط الأحرار التي قادها محمد نجيب وجمال عبد الناصر سنة 1952 بدءاً بواقع الثورة ذاتها، حين رفض عبد الناصر مقترح محمد نجيب أن توكل الجمهورية إلى حكومة مدنية، وأحالها إلى حكم العسكر، هذا الفشل سيستمر في المراحل الأخيرة للثورة ليبرز لنا تجلياته الممسوخة في الصورة الأجْلَى والأوضح، إنها صورة المثقف حين يستشعر فشل ما دافع عنه فينخرط  – بواقعية مقيتة - في المسار الذي تخطه له التحولات الاجتماعية، تحولات السلطة والثروة لأجل تحقيق الوصول (من الوُصولية) إلى مركز اجتماعي، والانخراط في مسار "التَّبرجز" الذي يصبح هَمَّ كل المكونات الاجتماعية، ثروة، سلطة، علاقات قوية مع رجال في كراسٍ مهمة، هذه هي الصورة التي سيعكسها  لنا رؤوف علوان باعتباره ترميزا  للصحفي والمثقف المصري إبان النكوص الثوري، ولا يهم إن كانت الشخصية تحيل على الواقعة التي دفعت بنجيب محفوظ  إلى رصد الواقع داخل الرواية، أقصد واقعة محمود أمين سليمان (2) ولكن الذي يهم هو الشخصية باعتبارها ممثلة لقطاع أو شريحة كبيرة من المجتمع، هي شريحة المثقف المنتمي للطبقة المسحوقة والذي يتحول هنا إلى برجوازي صاحب ثروة في سيرورة التسلق الطبقي التي انتهجها، هذه واحدة من أقوى مواقف النقد الاجتماعي التي أغفلها النقد المدرسي لرواية  تبدو "سهلة" للجميع لكن فيها ما فيها، فتيمة النقد الاجتماعي تحضر في روايات محفوظ بقوة، نقد التبرجز اللحظي والاعتياش على إخفاق الثورة لأجل الكسب والاغتناء، من هنا مفهوم السقوط  أو ثيمة السقوط الاجتماعي والثوري التي خيمت على جو الرواية منذ الجملة الأولى إلى لحظة السقوط بالرصاص والاستسلام في المقبرة ليلا .


إنّ الخيانة والسقوط هما الثيمتان الأساسيتان اللتان يمكن أن نتحدث عنهما باعتبارهما محورا موضوعاتيا للكتابة السردية في نص اللص والكلاب ولكن هذه الخيانة – حسب غالي شكري -  حضرت على مستويين:
أ‌- خيانة  الحياة أو الواقع والتي ستؤدي إلى خيانة نبوية وعليش، وهي خيانة طبيعية باعتبارها انعكاسا لخيانة الواقع والطبيعة (طبيعة الأنثى وطبيعة الصراع الاجتماعي بين الأفراد) وبناء عليه تكون خيانة غير فاعلة بقوة في تبلور النص، أي خيانة غير واعية بذاتها لأنا عكست ظروفا قهرية عاشتها نبوية ومطمحا بسيطا قاد عليش إلى الغدر.
ب‌- ثم "خيانة المثقف"، أعني خيانة رؤوف علوان، وهنا الخيانة الحقيقية التي تؤدي إلى السقوط الثوري والاجتماعي، الخيانة الواعية بذاتها وهي أنكى وأكثر حمْلاً  للدلالة والرمزية، فهذه الخيانة لها (رنين مختلف تماما عندما تجيء بشأن نبوية أو عليش) يقول غالي شكري، لأنها خيانة مركزية في تبلور النص وصراع القيم كما سيتضح في حوار سعيد مهران ورؤوف علوان في الفيلا الفاخرة، لقد كان رؤوف علوان أنموذجا ثوريا في عيون سعيد مهران المراهق والشاب الذي يحلم بالواقع الثوري، بالعدالة الاجتماعية وبحق الجميع في الخبز والكرامة، تلك الخطب التي كان يبثها في الشباب كان سعيد ابن البواب الفقير يتلقفها كأنها كلام موجه إليه شخصيا، تعاليم دينية يجب أن يُطبّقها، هكذا كان يفهمها، لكن في لقاء الفيلا بعد خروجه من السجن اكتشف سعيد أن علوان أصبح شخصا مختلفا،لم يعد يؤمن بحق الفقراء في سرقة الأغنياء ونهبهم، مادام ما سيأخذونه حق ينتزع (لأنه أصبح من الأغنياء طبعا):
" - سعيد، ليس الأمس كاليوم، كنت لصا وكنت صديقا لي في نفس الوقت لأسباب أنت  تعرفها، ولكن اليوم غير الأمس، إذا عدت إلى اللصوصية فلن تكون إلا لصا فحسب !
..واقفا في عصبية  وهو يواجه اليأس في صراحته القاسية، ولكنه خنق انفعاله بإرادة من حديد فعاد إلى الجلوس وهو يقول بهدوء :
-    
اختر لي عملا مناسبا !
-    
أي عمل ، تكلم أنت وأنا مصغٍ إليك
فقال بسخرية خفية في الأعماق :
-    
يسعدني أن أعمل صحفيا في جريدتك، أنا مثقف، وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب بإرشادك، وطالما شهدت لي بالنجابة ..
فهز رؤوف رأسه في ضجر حتى لعب الضوء فوق شعره الأسود الغزير وقال :
-    
لا وقت للمزاح، أنت لم تمارس الكتابة قط، وأنت خرجت أمس فقط من السجن، وأنت تعبث وتضيع وقتي  بلا طائل" (3).
إن  معركة سعيد مهران مع القيم هي المعركة الأساسية التي بدأها منذ صغره، وبالضبط على يدي رؤوف علوان الذي شبّعه بقيم الاشتراكية والعدالة والذي سيتسبب في إصابته بفصام بين عالمين، عالم قديم عاشه تحت تأثير إيديولوجيا العدالة، وعالم جديد يصدمه بغياب كامل لتلك القيم، وبالضبط في شخص المثقف المثال، الذي يتخلى عن كل شيء آمن به في مرحلة المد الثوري، فيسائله سعيد مهران ممثلا صوت الضمير وصوت النقد الذي يمكن أن يوجهه عقل التاريخ إلى المثقف الخائن :"أتدفع بي إلى السجن وتثب أنتَ إلى قصور الأنوار والمرايا، أنسيتَ أقوالكَ المأثورة عن القصور و الأكواخ، أما أنا فلا أنسى."(4).


إنّ المحاسبة الواعية من المجتمع  ممثلا في مهران للمثقف الخائن ممثلا في رؤوف، وإن كانت هذه المحاسبة تحمل طابعا غضبيا إلا أنها تعكس مسار التحولات فيما بعد الثورة، ففي مصر الخمسينات التي سادها نموذج المثقف العضوي كما صاغه أنطونيو غرامشي كان هناك إيمان شبه جماهيري  بأن التغيير والتحول نحو مجتمع العدالة تغيير ممكن وهو على مقربة خطوة صغيرة وبقيادة نخبة "الأنتلجنسيا" ذاتها التي مهدت للثورة اجتماعيا وثقافيا ثم سياسيا، أما مصر رؤوف علوان الثاني (مرحلة الخيانة) فتمثل مرحلة التفكك والسقوط الاجتماعي الذي يرتبط بالمثقف في جدلية معقدة، فالمثقف هو أحد أسباب هذا الفشل وهو في الآن ذاته نتيجة لهذا الفشل
هو سبب الفشل لأنه ساهم في تحويل المجتمع إلى بنية صراعات بين أبناء الطبقة الواحدة، فالطبقة الشعبية لم تعد تؤمن بالمشروع الثوري وبناء عليه أصبح كل يتسابق إلى الثراء على حساب سحق  أبناء طبقته كما فعل علوان، وهو نتيجة هذا الفشل لأن قيادة الثورة فشلت بالرغم من الدعم الذي قدمته لها طبقة المثقفين في فترة لاحقة، ولكن سعيد مهران لا يريد أن يحلل الواقع  تبعا للعناصر الفاعلة فيه، إنه يؤمن بيوتوبيا القيم التي خلقتها الثورة في نفسه الطموحة، يوتوبيا ممثلة في رؤوف علوان، ويعتبر خيانة المثقف خيانة شخصية له قبل أن تكون خيانة لجموع الفقراء والمستضعفين…ولعل خيانة المثقفين في مختلف الأقطار العربية التي عاشت حلم القومية المجهض كانت  تدخل أيضاً ضمن الخيانة الكلية التي تسببت فيها الأنظمة للشعوب، وفي هذا المسار تعتبر خيانة علوان خيانة كبيرة لأنها تفريع عن خيانة المجتمع ككل، فسعيد مهران ترميز للمجتمع أو للطبقة المقهورة، ورؤوف علوان ترميز لثلة المثقفين المتخاذلين الذين خانوا المجتمع واستعملوا خطاب الاشتراكية والعدالة ليصلوا به إلى الكراسي والمناصب ويكدسوا الثروة والجاه.

لقد خان المثقف/ رؤوف علوان لأن تحولات الاقتصاد والسياسة والمجتمع والسلطة التي كانت منتظرة من قبل الجميع لم تتحقق، لم ينضج الاقتصاد القومي إبان الثورة ليستقل عن عناصر الدعم الخارجي الذي يفرض التبعية للمؤسسات الدولية،لم يتطور المجتمع ليصبح قادرا على الدفاع عن نفسه، ظل تابعا لمؤسسة العسكر ومؤسسة الإعلام كما سيتضح فيما بعد حين تقدم جريدة "الزهرة" التي يقودها علوان تقاريرها عن سعيد مهران لتدمره وتحث البوليس على متابعته هو المعاقب خطأً  لأنه لم يفعل سوى التعبير عن العدالة في صورتها العفوية:
ذلك أن الصحافة لم تكن مجموعة من الجرائد، وإنما كانت إحدى شخصيات اللص والكلاب، أو إنها – على التحديد – كانت واحدا من الكلاب" (5).

الصحافة التي كانت  فيما قبل سلاحا من أسلحة المقاومة ستتحول لاحقا سلاحا من أسلحة تدمير المجتمع، وهذا يحلينا دائما  إلى النص، وخصوصا صورة رؤوف علوان الذي كان محررا في صحيفة صغيرة أيام الجامعة، فكان يدافع  آنَها عن الثورة من خلال ذلك المنبر، والذي سيصبح فيما بعد مالك جريدة "الزهرة" التي تمثل صوت الفساد وآلية في يد المفسدين، فلعل هذا التحول الذي طال القيم إبان فشل الثورة طال أيضا آليات عمل الثورة أو الثورة المضادة، والصحافة والثقافة على رأس هذه الآليات، لأنهما قابلتان لاحتواء مضامين متناقضة حسب السياق التاريخي والقيم التي تقف وراء استعمالهما لتوجيه الرأي العام.

من أسباب التحول المأساوي والتراجيدي في مسار المثقف نجد أيضا عدم ترسّخ مبادئ الديموقراطية في استلام السلطة منذ أول لحظة للثورة حتى آخر نفس فيها، فلم تكن هناك انتخابات مدنية وإنما استيلاء عسكري على الحكم، وهذا الاستيلاء سينتهي بتوريث، لذلك ارتأى المثقف الطفيلي (ممثلا في علوان) أن الوقوف إلى جانب الرابحين في مثل هذه المواقف المأساوية هو الأنجع له، والرابحون هم المضاربون العقاريون وأصحاب رأس المال والمستولون على قلاع السياسة في عصر الاضمحلال والتراجع عن الأحلام الكبرى.

لقد خان رؤوف علوان/ المثقف لأنه أيضا لم يكن يملك  موقفا ثوريا جذريا، وهذا هو الذي لن يغفره له سعيد مهران/ المجتمع، حين سيحاول اغتياله، هذا الاغتيال لم يكن في نص الرواية عبارة عن  انتقام شخصي، لسبب بسيط هو أن سعيد مهران لم يرغب بالانتقام الشخصي لأنه سينتهي من أمر نبوية وعليش فيما بعد وسيصبح كل همه هو رؤوف علوان، إنه انتقام رمزي، انتقام المجتمع لثلة المثقفين الذي اغتالوا أحلامه البسيطة، لقد استسلم المثقف للتحولات السياسية وساهم فيها وذلك ما لن يُغفَر لهُ أبداً عند أبناء الطبقة المسحوقة، لذلك سيكون الاغتيال الرمزي في الرواية اغتيالا واقعيا في الواقع حين ينفصل المجتمع العربي عن القيم الاشتراكية ويهرب من القيم العادلة التي روج لها مثقف السبعينات والستينات إلى نسق الدين، لقد ارتأى نجيب محفوظ أن يكتب الرواية ليسلط الضوء على تخاذل المثقفين إزاء قضية محمود أمين سليمان، صمتهم المتواطئ عن القضية كان أيضا وجها من أوجه خضوعهم  للتحولات  الاجتماعية وشكلا من أشكال تبعيتهم لأطروحة الدولة الرسمية، تلك القضية شكلت مفصلا مهما في تموقع  المثقف المصري ضد المواطن البسيط لصالح الجهات العليا… وهي وجه من أوجه الخيانة المتوازية مع خيانة رؤوف علوان، لأن سعيد كان مرتبطا بالناس البسطاء (نور – ابنته سناء) كان يعتبر أن قضيته  – لاواعيا – هي قضية الآخرين لأنه منتمي، وطرق تغيير حياتهم نحو الأفضل تمر عبر نضال المثقف، لكن المثقف خان  وخضع لشرطه الذاتي والموضوعي دونما مقاومة تذكر ..


    إن ارتكان المجتمع العربي نحو نسق التدين وصعود الحركات الدينية – وإن بدا بعيدا عن نسق التحليل المباشر – يبدو لنا هو محاولة سعيد مهران الفاشلة في اختراق الفيلا وقتل رؤوف علوان، لقد تحول سعيد مهران إلى مسعور ضد نفسه، رجل يسعى للدمار، إنها صورة المجتمع المخذول الذي سعا تماما إلى الكفر بالاشتراكية كفكر وكإيديولوجية وكتصور للعالم، المجتمع هنا هو سعيد مهران، علوان هو النخبة المتخاذلة، والطلقات الزائغة، الهروب، هو نفسه الانتقام الذاتي للمجتمع من نفسه، من خلال الاستسلام تنازلا عن أحلام العدالة والتكافؤ ركونا إلى نوع من القدرية الثقافية والسياسية والاجتماعية، أي تعويض نسق المعرفة بالدين، نسق السياسة بالنكوص، وأكثر من ذلك قتل الحلم في اللغة والمأثور الشعبي عبر السخرية والتوقف عن الانخراط.


إن السقوط الاجتماعي أدى إلى الخيانة والخيانة أدت إلى السقوط الاجتماعي، جدلية مركبة تتبعتها الرواية بحذر ولم تقل عنها شيئا مباشرا، وهذا بالضبط مكمن قوة الكتابة الرمزية عند نجيب محفوظ، حتى سقوط المجتمع لم يتم الإحالة إليه بشكل مادي واضح، بألفاظ، بلغة صريحة، ولكن تم الالتفات بشكل ذكي للتعبير عن الواقع،كل رصاصة في جسد سعيد مهران المستسلم كانت ترميزا لتنازل وتراجع عن مكتسب شعبي لصالح الطبقات المسيطرة، ولعل واقع المجتمع بعد الثورة مصورا تصويرا  بليغا في آخر جملة في الرواية، أي واقع فقدان الثقة في السياسة والعدالة والاستسلام للعدمية المطلقة، العدمية التي تمثل النموذج المضاد "للمنتمي" أي "اللامنتمي"، يقول السارد في آخر مقطع من الرواية :(وغاص في الأعماق بلا نهاية. ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضوعا ولا غاية. وجاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة. ليظفر عبثا بذكرى مستعصية. وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة..بلا مبالاة )..

الإحالات:

   1. شكري غالي، المنتمي، مكتبة الزناري، الطبعة الأولى 1964 ص 258.
 .2شخصية واقعية عرفت بقضايا سرقة كثيرة في مدينة الإسكندرية، وحين التحقيق مع الرجل قال إنه يسرق الأغنياء فقط لأجل الفقراء، فسجن سنتين، في فترة السجن اكتشف أن زوجته ومحاميه خانوه، فخرج وبدأ بالانتقام مما خلف سلسلة من حوادث القتل كان يبرر فيها فعله بأنه انتقام من الخيانة، فأثارت القضية رأي الصحافة ولكن المثقفين  كانوا صامتين بل وقف معظمهم ضده .
.3 اللص والكلاب، ص 35- 36.
  .4  
الرواية.
 .5 
المنتمي، م م، ص 268.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-