ظاهرة الشعر الحديث، أحمد المعداوي المجاطي: الفصل الرابع: الشّكل الجديد
للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية
IIـ القراءة التحليلية:
الفصل الرابع: الشّكل الجديد
مادامت هذه التجربة الشعرية
هي تجربة جديدة، فكان لابدّ لها من شكل جديد يستوعبها، وقد تتبّع الناقد هذا الشكل
الجديد للشعر الحديث من خلال ثلاثة مستويات:
1ـ اللغة(تنوع المستويات اللغوية): اختلف من شاعر
إلى آخر، فهناك بعض الشعراء يستعملون لغة جزلة وعبارة فخمة وسبكا متينا على غرار
الشعر القديم الذي يتميز بالنفس التقليدي كما يظهر ذلك جليا في دواوين السياب
القديمة والمتأخرة وخاصة قصيدته “مدينة بلا مطر”، وقصيدة ”منزل الأقنان”، بينما
هناك من يختار لغة الحديث اليومي كما عند أمل دنقل في ديوانه ”البكاء بين يدي
زرقاء اليمامة”، وهناك من يخلخل اللغة الشعرية النفعية المباشرة ويستعمل لغة
انزياحية موحية تنتهك معايير الوضوح والعقل والمنطق كما نجد ذلك عند الشاعر أدونيس والبياتي ومحمد عفيفي مطر وصلاح عبد الصبور، وهناك من يشغل
اللغة الدرامية المتوترة النابعة من الصوت الداخلي، وهذا الصوت منبثق من أعماق
الذات، ومتّجه إليها.
2ـ الصورة الشعرية الجديدة: تجاوز الشاعر
الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الإحيائيين، والصور المرتبطة
بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين، إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلال
تحريك الخيال والتخييل وتشغيل الانزياح والرموز والأساطير وتوظيف الصورة الرؤيا
وتجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة الإيحاء. فكانت الصور الشعرية بذلك معبرا مناسبا لتطوير التجربة الشعرية.
3ـ التجديد الموسيقي/ الإيقاعي:
أـ تفتيت الوحدة الموسيقية: قامت موسيقى
الشعر الحديث على أساس الثورة على الإيقاع المحافظ، إذ لا يتصور أن تكون هناك لغة
جديدة وصور بيانية مبتكرة، دون تغيير للوزن وما يتصل به من إيقاعات وقيم عروضية،
فتم الانتقال بذلك من نظام البيت إلى نظام التفعيلة. وعليه فقد عمل الشعراء
المحدثون على تفتيت الوحدة الموسيقية التقليدية بالاستغناء عن البيت الشعري(صدر
ـــ عجز) واستبداله بنظام الأسطر الشعرية المتفاوتة الطول، وقلصوا من عدد الأوزان
إلى ستة( الهزج والرمل والرجز والكامل والمتقارب والمتدارك). كل ذلك من أجل تطويع
الوحدة الموسيقية وجعلها أكثر مرونة مما كانت عليه، وأكثر تعبيرا عن أحوالهم
الشعورية وتجاربهم الذاتية.
ب ـ خلخلة البناء الإيقاعي: من التحديات
التي واجهت الشعر الحديث، أن يأتي بقواعد موسيقية جديدة، وإلاّ فإنّ سُلطة النموذج
الموسيقي التقليدي ستظلّ عائقاً أمام حرية الفكر والشعور. وهكذا لجأ الشعراء المحدثون
إلى المزج بين أكثر من بحر، فقد جمع بدر شاكر السياب بين بحري الطويل والبسيط في
قصيدتين من ديوانه "شناشيل ابنة الشلبي"، وجعلوا بعض البحور المختلطة
كالصافية، مع الأخذ بنظام الجملة الشعرية بدل الوحدة الدلالية، وخوفاً من الوقوع
في الرتابة والملل المترتبين على تكرار التفعيلة الواحدة، استثمر الشعراء
المحدثون، القيم الإيقاعية التالية: الزحافات والأضرب والحشو، وذلك من أجل إحداث
أكبر عدد من التعديلات الموسيقية الممكنة في القصيدة التقليدية، وهكذا:
ـ استحسنوا زحاف
الخبن، في بحر الرجز، فتحقق لهم المراد: جعل الإيقاع أكثر تنغيما وأدفع للملل
والرتابة؛
ـ نوعوا الأضرب
فجاءت مختلفة، كما هو الحال في قصيدة الخروج لصلاح عبد الصبور، فتارة نجد: فعول،
وتارة مستفعلن، وتارة أخرى "مفاعلان"؛
ـ استغنوا عن
التدوير واستعاضوا عنه بتفعيلة خامسة أو تفعيلة تاسعة؛
ـ جعلوا من
القافية وحدة إيقاعية جديدة وأخضعوها لحركة الشعور والفكر بعيدا عن النزعة
الهندسية التي طبعت موسيقى الشعر التقليدي.
يكشف الفصل الرابع، بناءً على ما سبق، عن الشّكل
الشعري الجديد الذي أمدّه الشعراء الجُدد بكلّ ما يحتاج من ثورة وتجديد على
المستويات اللغوية والتصويرية والإيقاعية. تجديد مكّن الشعر العربي الحديث
من تشكيل ظاهرة متفرّدة حرّرت اللغة من قيود المعجم التقليدي وربطتها بالهموم
الذاتية والجماعية، وطوّرت الصور الشعرية لتكون معبرة عن هموم الجماهير الشعبية
ومستوعبة لمواد رمزية وأسطورية، ومخلخلة للإيقاع الرتيب والمتكرر.