ملخص الفصل الثالث | ظاهرة الشعر الحديث



ظاهرة الشعر الحديث، أحمد المَعْدَاوي المجّاطي: الفصل الثالث: تَجرِبة الحياة والموت


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية




ظاهرة الشعر الحديث، أحمد المَعْدَاوي المجّاطي: الفصل الثالث: تَجرِبة الحياة والموت




        

IIـ القراءة التحليلية:


الفصل الثالث: تَجرِبة الحياة والموت


يتمحور هذا الفصل حول الموضوعات والقضايا التالية: التحوّل عبر الحياة والموت، ومعاناة الحياة والموت، وطبيعة الفداء في الموت وجدلية الأمل واليأس. وقد ارتبطت هذه الموضوعات بأربعة شعراء حداثيين كبار، هم: الشاعر السوري أحمد سعيد الملقب بأدونيس، والشاعر اللبناني خليل حاوي، والشاعران العراقيان، بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي.

 لم يكن الشعر العربي الحديث كلّه شعر يأس وغربة وضياع وقلق وسأم، فهناك أشعار تغنّت بالأمل والحياة واليقظة والتجدّد والانبعاث أو ما يسمّى عند "ريتا عوض" بقصيدة الموت والانبعاث التي نجدها حاضرة في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي. وسبب هذا الأمل والتجدّد في أشعار هؤلاء التمّوزيين الذين تغنّوا بالموت والانبعاث هو ما تمّ إنجازه واقعيّاً وسياسيّاً كثورة مصر وتأميم القناة وردّ العدوان الثلاثي واستقلال أقطار العالم العربي والوحدة بين مصر وسوريا إلى غير ذلك من الأحداث الإيجابية التي دفعت الشعراء إلى التغنّي بالانبعاث واليقظة والتجدّد الحضاري. وتجربة الحياة والموت باعتبارها مشدودة إلى المستقبل، ومرتبطة بالحاضر، هي نوع من المعاناة المتضمنة للموت، وحافز مفعم بالحياة والتجدد مستقبلاً، واعتبر المجّاطي هذه التجربة في الشعر العربي فريدة من نوعها في تاريخه، باستثناء بعض محاولات الشعراء المهجريين التي عبرت عن فكرة تناسخ الأرواح، كما تجلت في أقصوصة: "رماد الأجيال والنار الخالد" لجبران. وعند ميخائيل نعيمة في قصيدته "أوراق الخريف". لكن تجربة المهجريين بقيت في حدود ضيّقة، تفتقد إلى التماسك، باستثناء قصيدة "الحائك" لنعيمة.



وتبقى فكرة الحياة والموت في الشعر الحديث، أقرب إلى فكرة الفداء عند المسيحيين، ومن ثمة كانت رسالة الشاعر الحديث أن يحول إحساسنا بالموت، إلى إحساس بالحياة. وليقنعنا بهذا التصور الجديد، راح يضمّن أشعاره رموزاً مُستقاة من الأساطير الوثنية، والبابلية، والفينيقية، والمسيحية، والتراث العربي الإسلامي، والفكر الإنساني، ومن التاريخ الإنساني. وبالتالي تردّدت في أشعارهم أسماء أسطورية، رمزية مثل: تموز، عشتار، أورفيوس، أوريديس، العنقاء، طائر الفينيق، مهيار، السندباد، الخيام ومعشوقته عائشة، الحلاج... والهدف من توظيف هذه الرموز التي تدُور كلّها حول معاني التجدّد، هو تقديم التجربة الشعرية بشكل يتفاعل فيها الإحساس بالفكر. والتغلغل إلى اللاّشُعور حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة.
ومن أهم الشعراء الذين تبلورت في أشعارهم تجربة الموت والحياة، الشاعر السوري أحمد سعيد الملقب بأدونيس، والشاعر اللبناني خليل حاوي، والشاعران العراقيان، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي.


1ـ أدونيس: "التحول عبر الحياة والموت"

لقد ربط أدونيس الصلة بين جدلية الموت والحياة منذ مطلع تجربته الشعرية، فقد ارتبطت ذات الشاعر بأمته العربية، وقرن موتها وحياتها، بموته وحياته، واعتمد المجاطي في رصد تجربة أدونيس على ديوانين شعريين: "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار" و"المسرح والمرايا"، وخلص إلى الاستنتاجات التالية:

ـ تجربة أدونيس مع الحياة والموت، تصدر عن ذات مليئة بالتاريخ العربي إبان عظمته، وزهوه، في الوقت الذي أصبح فيه اليوم منهاراً ومنكسراً؛
ـ الاعتزاز بالحضارة العربية في أبهى مراحلها، وقبل أن تتعرض للغزو والاستعمار.

ومن هنا كان موقفه من الواقع العربي، شبيها بموقف المسيح من جثة لعازر، ملؤه القوة والإحساس الخارق في أن تعود الحياة إلى جثة أمته. وعموماً، فقد سارت تجربة الشاعر في مسارين:
الأول: ينطلق من الحيرة، والبحث عن وسائل البعث؛
الثاني: محاولة الكشف عن مفهوم التحول، للدفع بالواقع العربي نحو البعث والتجدد.
وتستمد تجربة الحياة والموت قيمتها من المسار الثاني الذي يعتمد مفهوم التحوّل، وهو مفهوم طبع شعر أدونيس خاصة في قصيدة "تيمور ومهيار"، حيث مهيار رمز للشعب والحياة، وتيمور رمز للاستعباد والقهر والموت. وعموما لقد آمن أدونيس بأن التحول، ممكن، والبعث ممكن، وحاول إقناعنا بهذا التصور، وحالفه الحظ في بعض القصائد، وخانه في بعضها الآخر.


2ـ خليل حاوي:  "معاناة الحياة والموت"

انطلق الشاعر خليل حاوي من منطلق مختلف تماماً عن منطلق أدونيس، فهو يرفض مبدأ "التحول"، ويستبدله بمبدأ: "المعاناة". ومن خلال دراسة المجاطي لدواوين الشاعر، يستنتج أن معاناته، هي معاناة حقيقية للخراب، والدمار، والجفاف، والعقم.
ففي واقع يتّسِم بتفسّخ القيم، سواء في ذات الشاعر، أو في الواقع المنظور، سعى الشاعر أن يبعث شعلة الأمل في النفوس المنكسرة، في غد مشرق جميل، لكن سطوة الواقع المتفسّخ، وقف سدّاً منيعاً أمام تحقيق الآمال، فبقي الشاعر يحترق بصعوبة التحوّل، وبالتالي معاناة القحط، والموت، والدمار، وفي نفس الآن الحياة.
وعندما يلتفت الشاعر إلى واقعه، ويبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا الموت الذي يخيم عليه، تتكشّف له الحقيقة المتمثلة في جانب حضاري مهم، وهي العلاقة بين الجنسين التي تدهورت بفعل انهيار كيان الفرد، والأسرة، وبالتالي انهيار المجتمع انهيارا حضاريا شاملا: (قصائد: نعش السكارى جحيم بارد بلا عنوان). وكما عاش الشاعر الموت في هذه القصائد، فقد عاش الحياة كذلك والموت مجتمعين، في قصائد " بعد الجليد، حب وجلجلة، المجوس في أوروبا".



إنّ التحول الذي ينشده الشاعر لا يتجه نحو التجدد والبعث، بل نحو السكون والموت، فيتجمد الشاعر لأنه غير قادر على الفعل في انتظار ما يأتي به المستقبل. إلا أنه لا يعقد كبير الآمال على الأجيال القادمة في رحم الغد، لبعث الأمة من الموت، ومع ذلك فالشاعر يتابع هذا البعث ويواكبه بقصائده، وشعره، بإزالة أكداس الأمتعة العتيقة، والمفاهيم الرثة عن هذه الأمة، وإعدادها لمعاينة إشراقة الانبعاث، على حد تعبير الباحث.
وفي كثير من القصائد نلمس امتلاء الشاعر بروح اليأس من البعث، وذلك بعد معاناة فريدة له مع الموت، لاسيما في ديوانه "نهر الرماد".
شكلت المعاناة إذا البؤرة التي انصهرت فيها بشكل متواز إيقاعات الأمل واليأس، وكان للظروف التاريخية دخل في ما كتبه الشاعر في هذه المرحلة، فالقطر المصري يعيش فترة مظلمة، ولكن بوادر الأمل بدأت تلوح مع الثورة المصرية، إلا أن خليل حاوي اجتهد في التوفيق بين الواقع الحالك المخيف، ورؤاه الذاتية التي تسعى إلى تخطي هذا الواقع.



3ـ بدر شاكر السياب: "طبيعة الفداء في الموت"

يرى الباحث أن قصائد السياب مثقلة بمعاني الموت والبعث، ولكن الموت عنده يتخذ بعدا فدائيا، فهو يرى أن البعث لن يكون إلا بمزيد من التضحيات، وقد عبرت عن هذا قصيدة:"النهر والموت"، حيث يختمها بقوله: "إن موتي انتصار". وتمكن السياب من أن يعمق معاني الموت كفداء من أجل النهوض والبعث في كثير من نصوصه الشعرية موظفا الأسطورة لإحداث التأثير المرغوب فيه، كما في قصيدة: "المسيح بعد الصلب". فرغم أن المسيح/ رمز البطولة، كان يعاني الموت إلا أن جوارحه كلها مرتبطة بالحياة فهو يسمع صوت الريح، ينصت لصوت الأعاصير..). إنها أصوات الطبيعة تعلن استمرار الحياة. ويوحد الشاعر بين المسيح، وبعث الأمة العربية، مؤكدا أن حياة المسيح، ستكون خصبة، وعظيمة بعد موته، إن الفداء هو الطريق الأنسب لحياة الأمة.
ولكن انكسار الشاعر ويأسه من البعث، والتجدد يشبه اليقين، فالإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يقتل الماضي فيه. يقول الشاعر: فليهدم الماضي، فالإنسان ليس ينهض إلا على رمادها المحترق متشردا في الأفق. ويخلص الباحث إلى القول بأن السياب نجح في توظيف جدلية الموت والحياة، بشكل متفرد، ومتميز سواء على المستوى الذاتي، أوالمستوى الحضاري.



4ـ عبد الوهاب البياتي: "جدلية الأمل واليأس"

يميز المجّاطي وهو يدرس تجربة البياتي بين مرحلتين في حياة هذا الشاعر، قبل ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي" حيث وجد نفسه أمام حقيقتين:

الأولى: قدرة الشاعر للكشف على واقع الانهيار والسقوط الذي انتهى إليه الواقع العربي؛
الثاني: سيطرة النزعة المتفائلة على المضمون العاطفي لأعماله.

أما المعالم العامة لتجربة الحياة والموت في شعر البياتي، فقد سارت في منحنيات ثلاث:
 انتصار الحياة على الموت: وذلك في دواوينه التالية: (الكلمات لا تموت النار والكلمات، سفر الفقر والثورة.)
 تكافؤ بين كفتي الحياة والموت: (ديوان الذي يأتي أو لا يأتي).
انتصار الموت على الحياة: (ديوان الموت في الحياة).



وتناول الباحث هذه المناحي بتفصيل أكثر، محللا، ومعللا:
ـ منحى الأمل: يتجلى في رحلة الفنان المناضل الذي يفتح أبواب المعركة، وخلال مساره لم يبصر فيه غير الدمار، والخراب، لكن هذا المسار يحمل بين طياته بذور الأمل، فقابل بين الحياة والموت في مواجهة شرسة وانتهى الأمر بقتل، الموت. تبدى هذا في ديوانه: "النار والكلمات". ولم تنتصر الحياة على الموت إلا بفضل النضال المستمر، والوعي المتجدد. وللأسف، ومع مرور الزمن، لم يتحقق هذا النضال.
ـ منحى الانتظار: ففي ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي"، تغيب صورة انتصار الحياة على الموت، فتتحول القصائد إلى فضاء تتشتت فيه المتناقضات، وتتفاعل الرموز، لتعيق أي حركة جدلية، فتبقى الأمور والأشياء ساكنة. وتتبع الباحث مضمون هذا الديوان بغية الكشف على هذا التصور الجديد الذي يطرحه الشاعر في علاقته بالحياة والموت، من خلال أربعة خطوط:

خط الحياة: في هذا المسار يحكم الشاعر على البطل (الذي سيغير أو الحالم بالتغيير)، بأن يعيش الحياة دون أن يكون له خيار، وهذه الديمومة يستمدها من طبيعته الثورية، وقدرته على تحمل العذاب الأبدي.. كما يصطبغ هذا الخط بدم الشهادة، والانفعال العاطفي القوي بسبب طول الانتظار.
خط الموت: نظر الشاعر إلى الموت باعتبارها عبورا نحو الحياة الحقة، وقام بذالك بشكلين:
الأول: في ديوانه: "الذي يأتي أو لا يأتي"، تجسد فيه ما سماه الباحث بنفي الوسط الأسطوري. فالمدن التاريخية، والتي تحولت بفعل الأسطورة إلى رموز إنسانية عظيمة تدمر الواحدة بعد الأخرى: نيسابور: تنهشها النسور .إرم ذات العماد: يسلخ جلدها وتشوى فيه. بابل: تحاصر وتجوع.
الثاني: في الشعر الحديث، غالبا ما يقوم الأبطال بأعمال خارقة، فيبعثون من الرماد، لا أحد يمكن أن ينتصر عليه... أما عند البياتي، فالبطل فريسة سهلة للموت بعد طول الانتظار، وبعد أن أنهكت القيم التي يرمزون إليها. (يموت تموز تقتل عشتروت، ويموت الحب بموت عائشة).


3ـ خط الاستفهام: وهو خط التساؤل والحيرة والتي قصد بها الشاعر تفكيك طرفي جدلية الحياة والموت، وهو يتبع خط الموت السابق: موت الوسط الأسطوري، يرتبط بموت الحقيقة والعدل. موت عائشة، وبقاء عشيقها، الخيام في حزن دائم.
موت شهريار الذي أحس بالذنب، وبموته انتهت التوبة، وبقي الحكام يمارسون الظلم.
4ـ خط الرجاء والتمني: ويتمثل في انتقال الفعل من واقع النضال إلى واقع الحلم، وأصبحت كل الرغبات والانتظارات، مرتبطة بخط الرجاء/ الأمل/ التمني. ونجح الحلم في إيجاد نوع من التوقع الذي يفتقد إلى الاستمرارية والديمومة، ورغم بقاء المسافة ثابتة بين الموت والحياة، فإن الشاعر انتهى في آخر المطاف إلى الموت، كما تجسد ذلك في مجموعته الشعرية: "الموت في الحياة".
خط الشك: انطلاقا من ديوانه: "الموت في الحياة"، يكشف لنا الشاعر القيم المهترئة والميتة التي يروج لها أشباه الرجال، والشعراء المرتزقة، وينادي بالقيم الحية المنبثقة من قوة النضال. ولتتحقق هذه القيم النبيلة فقد عمل على فضح زيف النضال العربي لأنه لا موت بلا نضال، ولا بعث بلا موت. فإن حدث بعث بلا نضال أو موت، فهو بعث مزيف، أو موت في الحياة. وتبقى قدرة البياتي على الكشف عن الواقع، هو مصدر قوة شعره فتتساوق رؤيته إلى الموت، برؤيته للحياة، ويحكمهما معا رؤية القلق والانتظار.


الخاتمة

يخلص المجاطي إلى أن توحد شعراء الحداثة واتفاق معانيهم عند معاني الحياة والموت نابع من إحساسهم، سواء قبل أو بعد النكسة، بالخطر المحدق بماضي أمتهم، وحاضرهم، وإدراكهم للتحديات التي تهدد وجودهم المتمثلة في محو الوجود القومي والإنساني للأمة العربية. كما اعتبر الصراع بين الحياة والموت بمثابة صراع بين الحرية والعبودية والتمرد، وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان/الوطن، والتاريخ. ولعل الميزة التي تميز بها شعراء الحداثة، هي نظرتهم الثاقبة للواقع، وقدرتهم على رصد الصراع بين القيم.
لكن هذه التجربة لم يتسن لها أن تصل إلى شريحة عريضة من الناس. نظرا للأسباب والعوامل التالية:


ـ العامل الديني القومي: يتجلى في الخوف من تشويه الشخصية الدينية والقومية وذلك بفعل خلخلة التراث، فالتجرؤ على الشعر التقليدي يمكنه أن يقود إلى المس بالمقدس.
    ـ العامل الثقافي: اقتناع بعض القراء والنقاد بجماليات الشعر القديم، جعلهم يرفضون أية محاولة تجديدية.
ـ العامل السياسي: خوف الحكام من المضامين الثورية للشعر الحداثي دفعهم إلى محاربة هذا الشعر، فصادروا الدواوين، ومنعوها من التداول، وسجنوا الشعراء...

ـ العامل الفني التقني: ذلك أن حداثة الوسائل الفنية التي توسل بها الشعراء المحدثون حالت بينهم وبين الجماهير لعدم قدرتها على تمثل المضامين الثورية التي زخر بها هذا الشعر.







حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-