منهجيّة تحليل نصّ شعري ينتمي لحركةِ إحياءِ النّموذج
رثاء محمود سامي البارودي باشا
إنجازُ الأستاذ: عبد الرّحيم دَوْدِي
المرجع: واحة اللغة العربية، ص20 (للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية).
جاءتْ
حركةُ البعثِ والإحياء،
لِبَعْثِ القصيدة العربية القديمة، هادفةً مُحاكاة النماذج الشعرية العربية الأثيلة، بِعَدِّهَا نماذجَ إبداعيّة راقية تنطوي على
مقومات الإبداع الشعري الخالد. ومن هنا، كانت البداية، إذْ تجشّم الشعراء
المنضوون تحت لواء هذه الحركةِ، مَهمَّة نفض غُبار الرثاثة عن القصيدة العربية وإخراجها
من شرنقةِ الاجترار المريض والمحاكاة الساخرة، التي لحقتها في عصر
الانحطاط. وقد مثّل هذا الاتجاه الشعري ثلةٌ من الشعراء الكبار أمثال محمود
سامي البارودي، أحمد شوقي، معروف الرصافي، علال الفاسي، وحافظ إبراهيم صاحب القصيدة قيد التّحليل.
وتنتظم
القصيدة الشعرية التي نحن بصددها، وفق انتظام القصائد العربية التقليدية، فهي ذات
معمارية منشطرة إلى شطرين، يوازي فيها الصدر العجز الذي يختم بروي مطلق، وبقافية متواترة،
تتوحد حولهما الأبيات الشعرية، التي أثناء تدرجها، يبدو أولها مصرعا، بينما
يبدو كل واحد منها مستقلا بذاته عن الآخر، مما يدل على وحدة البيت الشعري. وهاته
القصيدة تنسب إلى الشاعر المصري حافظ إبراهيم، الذي يعد أحد رواد حركة
إحياء النموذج الشعري العربي الأصيل.
فالشاعر
حافظ يَحْتَسِبُ له الزمن دوره الريادي في تفعيل هاته الحركة، التي أرساها أستاذه
الشاعر محمود سامي البارودي، الذي خصّه، حين قضى، بالقصيدة التي بين أيدينا، وعنونها
باسمه: رثاء محمود سامي
البارودي باشا، وهو عنوان يحيلنا مباشرة، بجانب التصدير الذي صدرت به
القصيدة، على الغرض الشعري، وهو الرثاء المعتبر من موضوعات الشعر العربي، ومن أبرزها، وأصدقها،
وأكثرها تعبيرا عن المشاعر الإنسانية، لأنه يرتبط بالموت وما يترتب عنه من أحزان.
استناداً
إلى كلِّ هذه الملاحظاتِ نفترض أنّنا إزاء قصيدةٍ شعرية ذات نفسٍ
تقليدي تروم مُحاكاة القصيدة العربية القديمة، وذلك من خلال اشتغالها على
غرض الرّثاء الأثيل اشتغالاً يلتزم بُنُودَ خطاب البعث والإحياء.
فإلى
أي مدى استطاع الشاعر أن يدل على غرض الرثاء دلالة تقليدية تتساوق وبنود خطاب
البعث والإحياء؟ وما المضامين التي قرنها به؟ ثم ما الخصائص المعجمية والفنية التي
تحبل بها القصيدة؟
بدءاً، تنشدُّ مضامين هاته القصيدة إلى فكرة رئيسة، تلقي بظلالها على مختلف الأبيات الشعرية، وهي
مُصيبة موت الشّاعر محمود سامي البارودي، التي أفجعت الشاعر حافظ إبراهيم، حتى
كادت نتيجة هولها أن تحول دون تعبيره عما يكنه له من مشاعر، باعتباره شاعرا مميزا،
وشخصية محنكة.
فهاته
الفكرة الشاملة، تنضوي تحتها أفكار
أساسية، ترتبط أولاها بالبيتين الأولين، وهي: استعصاء الكتابة الشعرية
على الشاعر، وعدم انقياد البلاغة لشاعريته، نتيجة هول فاجعة موت المرثي.
بينما
ترتبط ثانيتها، بالأبيات الخمسة الموالية (3...7)، ففيها يمدح الشاعر البارودي،
بما يحظى به من رفعة، وما يتميز به شعره من سلاسة، وفصاحة، ورقة، وعذوبة، وحيوية.
أما
ثالثتها، فترتبط بالأبيات (8...13)، وهي تمتدح الشاعر الذي أعلت شأنه الفضيلة،
وأظهر في مواجهة تقلبات الدهر حنكة، وشجاعة وقوة الشخصية.
ويختم
الشاعر قصيدته، بفكرة تضمنها البيتان الأخيران، حيث يعبر عن استِلهامه شعر
البارودي في كَلِمِهِ، ويعتذر له على تواضع شعره، وتواضعه.
ولعلّ
الناظر إلى هاته الأفكار يجدها دالة على شخصيتين شاعريتين، الشخصية الأولى هي
الذات الراثية التي تأثرت أيما تأثر بموت الشخصية الثانية المرثية، إلى درجة أنها
لم تتحمل فاجعة الموت، ولم تقو لشدتها على رثائها شعرا، فهذا الشعر استعصى عليها
ولم يطاوعها المطاوعة اللائقة بمقام الشاعر المرثي، لذا لم تجد بدّاً في نهاية
القصيدة من الاعتذار له، والاعتراف بتواضع قريضها.
والملاحظ في هذه البنية المضمونية، التزامها
بمقومات الشعر العربي القديم، وهذا ما يتراءى جلياً من خلال توسُّل الشاعر بغرض
الرثاء بما هو غرضٌ أثيل، وأثير لدى الشعراء القدماء، فمن منا لم ينتحب مع الخنساء
في بكائها على صخرٍ. ومن منا لم يبك مع أبي ذؤيب الهذلي موتَ
أبنائه السبعة. إننا أمام مرثيةٍ شعرية تمتحُ من تراث الأولين. وهذا دليل على
انتماء قصيدة حافظ إبراهيم إلى خطاب البعث والإحياء.
إزاء
هاته الدلالات، المنشدّة إلى ملكوت الشعر الأصيل، نرى مجديا تحديد الحقول
المعجمية المهيمنة التي تدرجت عليها، لا شك أن أبْيَنَ حقلٍ، يتبدى في حقل: تيمة الشعر التي استدعت جملة
من الألفاظ المعجمية الدالة على مجالها، فمنها: "بياني، البلاغة، القوافي،
فارس الشعر، شاعر، الأناشيد، السلاسة، الفصاحة، بيت له ماء، اليراع، كلمي، تقصيدي،
قريضي، قائله...".
وهذا
معجم يرتبط أغلبه بالذات
المرثية فهي الذات الفاعلة الحقيقية، بينما الذات الراثية هي مجرد ذات
منفعلة، هي دون مستوى سابقتها.
يلي
هذا الحقل المعجمي حقل آخر يهيمن بجانبه على البنية
الدلالية للقصيدة، وهو حقل تيمة
البطولة الذي تدلنا عليه مركبات معجمية، وتعابير تتمثل فيما يلي: "يا
شاعر الشعر والهيجاء والجود، شاعر ضن الزمان به، خير من هز اليراع (القلم) ومن هز
الحسام، رفعت لك الفضيلة ركنا غير مهدود، المواهب في ذكر وتخليد، همك هم القادة
الصيد، كم وقفة لك والأبطال طائرة (أي مولية بسرعة خشية الموت) ...".
هذا
فضلا عن ألفاظ وتعابير أخرى، سعى من خلالها الشاعر حافظ إبراهيم
إلى تبيان الحظوة البطولية التي حظي بها الشاعر محمود سامي البارودي، وكيف لا يحظى
بها، وهو الذي اضطلع بالدور الريادي لحركة إحياء النموذج، ووضع لبنتها الأولى، لذا
لا غرابة أن يظهر الشاعر، في سياق نظمه قصيدته جادا في إبداع هذا الإنسان، بدل
إبداع قصيدته التي اعترف في نهايتها بتواضعها.
بناءً
عليه، نستشف أن الشاعر وظف بنية معجمية كثيفة الظلال، مستعصية. إنّه يمتحُ معجمهُ
من مَعينٍ عربيّ جزلٍ، بليغٍ، صعبٍ أحياناً. ثم إنه، يغترف مضامينهُ من الرافدِ
الشعري العربي الكلاسيكي، الأمر الذي يجعلنا نتأكد، ولو جزئيا، أن القصيدة تنتمي
إلى خطاب البعث والإحياء.
وانسجاماً
مع هذا المعجم المثقل بعوالم الشّعر العربي القديم، وظّف الشّاعرُ صوراً بلاغية
بديعة اتخذت من التشبيه
والاستعارة منطلقاً لها. وليس يخفى على ذي بصيرة وذوقٍ فني، جمال التشبيه
الوارد في البيت التاسع والاستعارة الثاوية في البيت الثاني. إذ شبّه الشاعر، في
البيت التاسع، سلاسة البارودي وفصاحته الدافقة بنهرٍ فياضٍ متدفق. وهذا لعمري؛
تشبيهٌ ضمنيٌّ قشيبٌ يواشجُ بين كونين تركيبين يأتلفان في جوهر واحد هو التدفق
السيّال والفيض الروحيُّ الدّفاق. أما الاستعارة الواردة في البيت الثاني، فهي
استعارة تتصاقب فيها أفنان الإبداع تصاقباً يرشحُ شعريّة، ذاك أن الشاعر استعار
صفةً إنسانيةً؛ وهي الغضب، وأسندها إلى عالم البلاغة. فَأَعْظِمْ بَهَا من استعارةٍ،
تلكَ تربط بين عالمٍ مجردٍ هو عالم اللغة وبين عالمٍ محسوسٍ هو عالم الإنسان. إننا
هنا أمام استعارة مكنية بالغة البهاء حذف فيها المستعار منه وأشيرَ إليه بلازمةٍ
من لوازمه.
وخليقٌ بنا أن نشير في هذه النقطة
من التحليل، إلى أن الشاعر قد احترم بنود عمود الشعر، خصوصا البندين اللذين
يتحدثان عن مقاربة المشبه للمشبه به ومناسبة المستعار للمستعار منه. ناهيك عن أن
هذه الصور البلاغية جاءت لتضفي نوعاً من الجمالية على معمار القصيدة، وذلك من خلال
وظيفتيْ التّدبيج والزخرفة (وظيفةٌ جماليّة). وهذا مؤشرٌ صريحٌ على انتماءِ
القصيدة موضوع التحليل إلى خطاب البعث والإحياء.
وغير
بعيدٍ عن هذه الصور البلاغية،
نظم الشاعر قصيدتهُ وفق النظام
الشعري التقليدي العمودي، المنتصب على نظام الشطرين المتناظرين
والمتساويين. متوسلاً بوحدة
الوزن ووحدة القافية
(متواترة) ثم ملتزماً بروي
واحد على امتداد جسد قصيدته (حرف الدال)، هذا بالإضافة إلى استهلاله
للقصيدة بتقنية التصريع
(محمود/ مجهودي).
هذا
فيما يخص الإيقاع الخارجي
أما بالنسبة للإيقاع
الداخلي، فقد انتصب على متتاليات من التكرارات والتي يمكن أن نجملها
فيما يلي: تكرار الحروف
ويتجلى في ترديدِ مجموعة من الحروف الهمسية كـ(السين، الميم، التاء...) وهي حروف
تتساوق وحالة الانتحاب النفسي الذي يُعانيه الشّاعر جراء موت مرثيّه، كما عمد
الشاعر إلى تكرار جملة من
الاشتقاقات اللغوية كـ(عييت، أعيا/ الشعر، شاعراً/ تجري، جري)، وتكرار التضاد أيضاً (سود/
بيض). ناهيك عن توظيفه لتقنية
التوازي في البيت الخامس والثامن والعاشر.
والحاصل، أن الشاعر قد احترم البنية الإيقاعية
الخليلة أيّما احترام، فقد التزم بمبادئ العروض، من وحدة وزن وقافية وروي وأخلص
للقدماء مهجته، فنهج نهجهم، وحذا حذوهم في تقنية التصريع. وهذا مؤشرٌ على انتماء
القصيدة لخطاب البعث والإحياء.
ختاما، وبعد هذه المقاربة
التحليلية المحفوفة بالصعوبات، الشائكة أحياناً، نؤكد، بكثير من الاطمئنان، أن غرض
الرثاء جاء مُصطبغا بصبغة تقليدية، تنشدُّ مضامينهُ إلى عوالم الشعر العربي
القديم، ويمتح معجمه من رحيق اللغة العربية الراشحة جزالةً، معجمٌ مترعٌ بقيم
الصحراء والذاكرة. فضلاً عن ذلك، لا تحيد الصور البلاغية عن المنحى التقليدي، إذ
تأسست، في مجملها، على قواعد التدبيج والزخرفة لا التعبير والانفعال. أما
الإيقاع فقد انتصب على قانون العروض الخليلي ولم يَحِد عنه. من كلِّ هذا وذاك
نستنتج، بما لا يدع مجالاً للشك، أن قصيدتنا تنتمي إلى خطاب البعث والإحياء.