نصوص قصصية | لعبةٌ سمجةٌ


نصوص قصصية | لعبةٌ سمجةٌ


نصوص قصصية | لعبةٌ سمجةٌ

رَحيم دَودي




لـمْ تكن الحروبُ التي يخوضها "حمّادي" ضدَ أساتذة الجامعات المغربيّة والعربيّة بعيدةً عنّا. كانَ يُقحمنا في كلّ شيء. لا يرتبطُ التدريس الأكاديميّ، في اعتقاده، بالمعرفة والبحث والاجتهاد. هذا أمرٌ ثانويٌّ لا يَدخل ضمن سيرورات التكوين والتقويم. كلّ شيء مرتبطٌ بأن يتحوّل القسم إلى قبيلةٍ متعصبةٍ تدافعُ عن زعيمها ظالماً أو مظلوماً. وصل الأمرُ حدّ تمايزنا عن باقي طلبة الكليّة؛ أينما اتجهنا نَفَرَ الطلبة مِنَّا وتجنبوا الاشتباك معنا في حديث سيُسفر، حتماً، عن شتمٍ أو شنقٍ أو لكمٍ.

ذاتَ ليلةٍ شبّ نزاعٌ "فيسبوكيٌّ" بين "حمّادي" وبين مفكرٍ تونسيٍّ مرموقٍ مشهود له بالكفاءة العلميّة في العالم العربي. ألهبَ المجنونُ الواتساب رسائلَ آمراً إيانا بضرورة ولوج الفيس بوك، وتدبيج تعليقاتٍ قوية دفاعاً عن فكره النّادر. فالدفاع عنه دفاعٌ واجبٌ عن الحقّ والوطن والدّين. ولم يتوقف الجنون عند هذا الحدّ، بل أهابَ بنا إنشاء حساباتٍ جديدة وإمطار العدو اللئيم بتعليقاتٍ لاذعةٍ وإيموجياتٍ سَاخرةٍ. استفقنا في شرخَ الليل وبدأنا الهجوم. كنتُ قائدَ الفيلقِ الأوّل. كتبتُ تعليقاً أَعْرِضُ فيه، بمبالغةٍ ظاهرة، قوةَ كُتُبِ "حمّادي" نظريًّا وإجرائيًّا، مبرزاً موسوعيتها وشمولها للظاهرةِ الإنسانية مهما ضَؤُلَ حجمها. وما أن أنشرَ التعليقات حتى يتعقّبني الذبَابُ الرقمي بــ"اللايكات"، و"الجادوغات الحمراء" وباقي الأيقونات. لستُ أدري كيفَ تلبّسني "حمّادي" ليلتها، كنتُ أخوضُ حروبه، باندفاعٍ أعورَ، وكأنها حُروبيَ الشخصيّة. نسيتُ أنّي "نبيه" وصرتُ شخصا آخرَ لا أعرفهُ.

انتهت المعركة التاريخيّة بتعطيل المفكر التونسيّ حسابَه الفيسبوكيّ. وهذا الأمرُ خلَّف انتشاءً عظيماً في نفس "حمّادي". حين فتحت علبة رسائلي؛ وجدتهُ قد تركَ لي أيقوناً أزرقَ على هيئةِ يدٍ مُشجِّعةٍ. وفي صفحتهِ يرقصُ إعلانٌ قصير يدل على استغراقه في قراءةِ كتابٍ موسوم بــ"البيولوجيا الدّلالية: سيرورة تشكّل الأدلول الجِينِي": اهتماماتُه لا تنحصر عندَ البنية السّطحية، بل تتعدّاها إلى النواةِ الساكنة في القاعِ الصامت للحقيقة. وهنا يَكْمُن الفرقُ الجوهري بين من اعتنقَ العمقَ فلسفةً وبين من ظلَّ يسبحُ فوق محدوديةِ السّطح؛ فعندما تقرأ كتبَ "حمّادي"، تلحظُ، بيُسر، مظاهرَ المراوغة اللغوية والنزوع نحو إعتام الأفكار، حتى يخيل لك أنكّ حُيال لوحٍ أوغاريتيّ أُخْرِجَ، تواً، من مقبرة منسيةٍ. كتبهُ سديمٌ أعمى يلهجُ بكلّ غوامضِ الأرضِ والسماء.

طفقت أدردشُ مع زملاءِ الفصلِ الذين طار نومهم إلى الفضاء العالي بعدَ مهرجان "حمّادي". كانَ حديثنا في كل الموضوعات منطلقا، حرّاً، لا قيدَ له. لكن يتغير كلّ شيء عندما يتحدثُ أحدهم عن "حمّادي": في البدايةِ يسودُ نوعٌ من الترقب والاحتراز، بعدها نَصِفُ ما وقعَ بتحايلٍ والتواءٍ، وننتهي، أخيراً، بالشّكر والتقدير والإجلال للأستاذ الدكتور الناقد "حمّادي". كلّ واحد فينا كان يستبطنُ داخلهُ واشياً متلصّصاً يترصّد أصغرَ هنةٍ لكي ينالَ، نظيرَ إيصالها ساخنةً إلى "حمّادي"، حظوة عُمرها يومٌ أو يومين.

مرّ الأسدوسُ الأوّل وَفق هذه الوتيرة: تقريعٌ، ثمّ مباغتةٌ فحربٌ. يحتفظُ المسارُ بنظامه ثابتاً، وتتغيّر مواقعنا ضمن لعبة شطرنج "حمّادي"؛ إذا وعدَ أخلفَ، وإذا أقسمَ حنث، وإذا قرّر تَناسى. كلّ فعلٍ يقومُ به لا بدّ أن يفيدَ منه بشكلٍ من الأشكال. أما إذا منحكَ نقطةً فينتظرُ منكَ مُقابلاً وكأنّه يمنحكَ إياها من جيبه. ولا يتعين أن يُفهم من قولي: إنني أدعوه إلى توزيع النقاطِ دون معيار؛ بل أنبّه إلى كونِ الرجل لا يعتبر نفسهُ موظفاً يتقاضى أجراً عن عمله، بل يعتبر نفسهُ رئيسا نعملُ، نحن الطلبة، في ضيعته. ولعلّ هذا النزوعَ الشّاذَ قد ترسّب في ذهنه جراءَ نشوئه في عائلةٍ إقطاعيةٍ ترى في الناس طبقتين فقط: الجلّاد العليمُ والعبدُ العقيم. ولعلماء النفس أن يبحثوا في هذه الظّاهرة ليعرفوا عِللها وطرقَ علاجها إنقاذاً للأجيال القادمة من الخراب الأكيد. فلو استمرّ الأمرُ على هذا المنوال، سنصبح جميعاً، لا قدّر الله، مجتمعاً "حمّاديًّا" ممسوخاً يخرّبُ نفسه بنفسه.

كانت المفاجأة قاسيةً جداً. فرغمَ نباهتي وتملُّقي ونفاقي حصلت على تسع نقاط في مادّة "حمّادي". قمت بإعادةِ حسابِ النقاط التي منحني إياهَا فوجدتُ أنّ معدلي: ست عشرة نقطةً. كظمت غيظي في نفسي. حاذرتُ الحديث إلى طالبٍ قد يكونُ واشياً فيُوصل الخبرَ طازجاً إلى "حمّادي" ليرفعَ معدّله على ظهري. عدتُ إلى المنزلِ حسير البال كسيفهُ. وجدتُ أمّي تعدّ الكسكسَ بفرحٍ، فتجنبتُ إفسادَ فرحها. قبّلت يدها مبتهجاً وأخبرتها بأني سأغلق باب القصدير عليَّ لأنجزَ بحثيَ الطويل. ابتسمت كزهرةٍ غبَّ المطر.

استلقيت على سريري المتهالك. أخذت سيجارة وألهبت رأسها، ثم طفقت أسحب الدخان إلى تجاويف عروقي. صفا ذهني قليلاً. أشعلت هاتفي وعدتُ إلى صورة النتائجَ، فانتبهت لأمر مُفرحٍ؛ كانت نقاطي ممتازةً في كلّ المواد ماعدا مادتيْ: الخطاب البصري واللغة الإنجليزية؛ أي في مادة "حمّادي" ومادّة ابنة أخته التي كان يَحشرُ أنفه في عملية تنقيطها، محدّدا الــمُعدّل بنفسه. فهمت من كلّ ذلك، أنني نجحتُ، وأن "حمّادي" قام بهذا الفعلِ حتى أتسوّل إليه طالبا منه إعادة النظر في النقطة، حينها سيخبرني بأنه حدث خطأ أثناء مسك النقاط في النظام الإلكتروني. لعبةٌ سمجةٌ قذرةٌ. مُرَادُهُ، من خلالها، جذبي، بشكل ملتوٍ، لإعداد رسالة البحث تحت إشرافه. بهذا الفعل، سيكونُ في مُكنته تطويعي أكثر لتنفيذ مشروعاته الفاسدةِ والتلاعبِ بنفسيتي.

استيقظت في اليوم الموالي باكراً واتجهت صوب الكليّة. جلستُ قبالة القاعة أنتظرُ مرور "حمّادي" أو أستاذة اللغة الإنجليزيّة. أخرجت كتاب "المعنى ومعنى المعنى: دراساتٌ في نيوترونات السّرد" لــ"حمّادي" متظاهراً بقراءته. فإذا بهما قادمين يتغامزانِ: آهٍ لا ينسَ الدمُ عواء السّلالة. لمحته، خطفا، يسترق النظر إليّ متظاهرا بعدم رؤيتي. قصدتهما مُسلِّما مطرقاً. فعلا مثلما فعلت دونما زيادة أو نقصان. فسألت ابن علال عن نقطتي مخبرا إياه بما وقع. نظر إليّ نظرة استغراب مؤكدا وقوع خطأ أثناء الــمَسْكِ. أخبرت الأستاذة بما وقع في مادّتها أيضا. لم تقل شيئاً. بل كانت تنظر ببلاهة إلى خالها القذر. لكن "حمّادي" ابتدرَ موبخا ومؤكدا أن الخطأ وقع في مادّته فقط وليس في مادّة أخرى، وأمرني باحترام الأستاذة المقتدرة المتميزة، ثم أزاحني عن طريقه كذبابة متسخة وَاعِداً إيايَ بتصحيح النقطة ومشترطا شرطاً لم أسمعه لتداخل الحروف على لسانه.

تساءلت، وأنا أنزلقُ صوب المنزل: هل يظنّ هذا المسخُ أنّني بغلُ جدِّه في الجبل؟ أيعتقد أنّ طلبته تلاميذ المدرسة الابتدائية الذين كان يعذّبهم ويقهرهم؟ أيّ نوعٍ من الكلابِ هو؟

 أنقذني نداءُ "عيشة" من دوامة التساؤل العبثيّ المتفاقم. حينَ فتحتُ الخطّ تناهى إليّ صوتها مختلط النّبر: "لا تقلق ممّا فعلَ بكَ ابن الكلب؛ فأنت نجحت رغم أنفه". شكرتها بلطفٍ ثم سألتها عن معدّلها في مادّته. أجابت بصوت يكتظّ ضحكاً: "ست عشرة نقطة... فأخي جزارٌ وأنا حاملٌ في الشهر الثالث". ضحكنا وتحاكينا كطفلين يتعرفان إلى بعضهما أوّل مرّةٍ...



     




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-