نورٌ امّحى ثم اشتعل... | رَحيم دَوْدِي


نورٌ امّحى ثم اشتعل... | رَحيم دَوْدِي



نورٌ امّحى ثم اشتعل... | رَحيم دَوْدِي






ثم كانَ لقاؤهما مُفاجئًا:
كصاعقةٍ سوداءَ دكّت أركانَ كوخٍ منذُورٍ لخلاءِ التخمين المظلم...
بعدَ غيابٍ دامَ خمسَ سنواتٍ متحصّلةً بمعانقة اليومِ فيها أخاهُ اليومَ بلا غدرٍ أو إرجاءٍ مُصَمَّمٍ. بعدَ أن لملمَ أشلاءَ ذاكرته ورحلَ عن قريةٍ تتقصّف من الصّمت جُدرانها. رحلَ ليكملَ وعدَ الوحي؛ وحي استيحاءِ الحروفِ من منابتِ المعرفة، مُذْ المعرفةُ مرتهنةً بالمعاهدِ والجامعات. كانَ مؤمناً أنّه لم يُخلق ليلتفّ حولَ ظلالهِ؛ كانَ متحرِّقاً لإتمامِ صورته كما رسمتها جدّته "لالة فاطنة" ألواناً مقدّسة مُجترحةً من مجهولِ الليل.
ترتدُّ به الذاكرة -عبر انهمار سيلِ الصور مُتناسلةً في هروبٍ أهوجَ- إلى يوم الرحيل. رتّب كتبهُ، حسبَ لاذعة المعرفة، في محفظته الجلد. كلُّ كتابٍ يكتنزُ أغنيةً موشومةً بصورةٍ مخصوصةٍ. كلّ أغنيةٍ تستبطنُ وجعاً ممضًّا. كلّ وجعٍ يفتحُ في القلبِ آلاف الثقوب السوداء. وَلَكُمْ أنْ تتخيّلوا حجم تلك الثقوب النازفةِ المتسعةِ من غاباتِ "إيفري" إلى مجاهيل "صنّه" المقهورة مُذ الأزمنة محرّفة بغدرِ المؤرخين!؟ في حُميا هذا الفضاء المتداعي، المتقوّض، المتقرّح نظر من نافذة الغرفة الحمراء إلى الخارجِ الذي صار داخلاً، ألقى تحيةَ الوداعِ الأخيرة بعينين دامعتين.


في نزوله الدّرج الرخاميّ ردّد في طوايا روحه: "وداعاً أيّــــتها القريّة الخاوية أرضُها، الوعرة مسالكُها، الضارية مناخاتُها، ألم يُسَمِّكِ أبناؤكِ "بني يخلات"، إِحالةً على الأفق المسدودِ، وكنايةً على الزّمنِ الـمُعطَّل المتقهقر نحو التبدّد. رحلَ عنكِ من هم من صُلبك وترابكِ، فكيفَ تترجيّن بقائي أنا المنذور للحلمِ الـمُستحيل. كلّ برهة استنزفتها فيك تحملُ وجهين: وجهٌ مشرقٌ أبداً؛ وجهُ الوحدة الراشحةِ بالمعنى. ووجهٌ كالحٌ أبداً؛ وجهُ العطالةِ الفائض بعلائم التوقّف والتحجُّر في زَمن من تعطّل فيه برهةً فاتته النُهز والفرص. سأسافر إلى أرضٍ أخرى أنعتقُ فيها، في إيابٍ إلى ذاتي المفتقدة، اللاهفة لتحصيل الرتب الخليقة بها. أحبُّك...واغفري -بجلدٍ وقوةٍ- خيانتي أيتها الأرضُ اليتيمة". وصلَ إلى بابِ المنزل - الذي لاذَ به حولين كاملين- شاردَ البال كَسَيفَهُ. فقدَ إحساسه بالحدود المرجعيّة الـمُمَفْصِلَةِ للمُمْتَدِّ المتَّصل حوله. ثم حثَّ الخطى صوبَ غناءِ القُبَّرات والصراد ذي القنّة الحمراء.

بعدَ هذا الغياب تفجّرت صورتها في ذاكرته على نحو مباغت، مُفاجئ، صادمٍ. لم يكن يخمّن -ولو بضربٍ من الخيالِ المتفاحش- أن تُباغته صُورتها في سراديب الذاكرة. طيفها الأبيض نهضَ ملفعاً بالألمِ والحزن. كانتْ وجهه الأنثويَّ الذي توارى دائما عن وعيه. تساءل بذهن مشتتٍ: "كيفَ غابَ عني هذا المعنى؟". كانَ دائماً يستشعر خيطاً رهيفاً مستدقا يشدُّه إليها. بيْد أنّه كان يقمعُ هذا الانجذابَ المبهم بذريعةِ أن الأمر يرتبطُ بمراهقةٍ صامتةٍ، غامضة، منمّشةِ الوجهِ كسماء أبرقت نجومها بملايين الأنوار. من موقعه كان يحترمُ نفسه ويوقر من كان يعلّمهم المعنى مترائيا شِعراً مشبعاً باللذّة؛ لذة القراءة، أي السفر إلى أقاصي الجنون. كانَ يلزمُ صمت الحياد فلا تطفرُ منه نأمة زائغةٌ تشي بما يعتمل في دواخله. والآن، بعدَ أن بزغت من لا وعيه جلس مبهوتًا، ذاهلا، باستغراب مفغورٍ. الأسئلة المرعبة تنثال عليه تباعاً: كيف ظهرت من بين ملايين الصور الـمُختزنة في نماذج الإدراك؟ لِــمَ هي بالذات دون غيرها؟ أليس الأمر محض اعتباطٍ حدث دون قاعدةٍ أو قانون أم هي مصادفة مدبَّرةٌ تختالُ بمكرٍ أمامه محيلة إياه إلى فوضى؟


كانَ اسمها فاطمة، أو تلّيلا كما وسمها في أحد نصوصه الشّريدة. لم تكن جميلة جداً بقدر ما كانت غامضةً جداً، كروحه تماما. لا تتحرّك وحيده. تراها دوما تتوسط وصيفاتها. تتذرع بهن في صميم وحدتها. تتظاهر بصلابة المظهر. لكنها كانت مُتداعية الداخل. مرّة أبصر دموعاً تهمي من مُقلتيها، فسأل الوصيفات اللائي أجبنه: غبار السبورة يا أستاذ. فتعجب لأنه لم يمسح السبورة يومها. نزل الدرج دون أن يفاجئهن بالردّ المربك. كانت أكبر من سنها، حمّالة لسماتِ النبوغ، وكان هو مكتظاً بالنصوص، يتصرف بعفوية جمّة، لا يبخل بمعرفة إنْ كان مشمولات فكره، لا يدرّس المقرر بشكل حذافيريّ، بل يجعل المعرفة متعةً أسُّها التفكير الناقد والإدهاش الخلاق. لكنه، بعد هذا وذاك، كانَ غِرّاً لا يفهم كيف تسير الأمور حوله، وذلك لأنه كان في سن الزهور، لا يكبر مُتَعَلِّمِيه إلا بأعوام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وهو -في وفق هذا المقاس- شبيه بمن كان يُعلِّمهم. وقد تعلَّم منهم الكثير: كم كانت خيبتهُ كبيرةً حينَ انتهى العبور بالجفاء الثقيل: وهذا أوّل درس وآخرهُ. وكان أليماً جداً...

لم يكن يفتخر بهويته الأمازيغية، رغم أنّ والده يتحدّر من قبائل "تمسمان" في الريّف البعيد، ووالدته تنتسب إلى قبائل هوّارة الأمازيغية الوافدة من جنوب المغرب الأقصى. الهوية، عنده، انتسابٌ إلى الأرضِ باتساع جنونها. اللغات، في تصوره، رغم اختلافها، أدوات كشفٍ عما يخالج الوعي واللاّوعي من صور ومشاعرَ وأفكار. فهي، في المبتدإ والمنتهى، إمساكٌ بطيوف الشيء لا بالشيء الصامت؛ لهذا فهي مشرعةٌ على الاختلاف والتأويل، بينما يبقى الشيء حبيس ضحالة وهشاشة أصليتين. لهذا، كان أهل القرية يرونه مختلفاً؛ فمنهم من احترم اختلافه وفهمه حقّ الفهم، ومنهم متحجرو العقل الذين لا يفقهون القولَ ودلالاته بل يفهون ما بأنفسهم. ويا للمصيبة؛ فهؤلاء سوادٌ عظيمٌ وكثرة غالبة لا الحوار معهم ينفعُ ولا الإفهام يُجدي. فابكِ مصيرَ من تحجر عقله فصار جلاميد لا تئنُّ ولا تحنُّ...


يجلس رحيمَ الآن بعيداً عن كل العيون. ويستردُّ، عبر لمحاتٍ ملتمعة، مسار الأعوامِ الخمس الفائت، يحسب خساراته الكثيرة، ونجاحاته الكثيرة، ولا يتذكّر، في هذه اللحظة المسكونة بالوجع، سوى إلماعة معلّم حكيمٍ تقرّى نباهتَه، حين كان طالبا في صفه، فنصحه نصيحة أبٍ: سيفاجئك، يوماً، شخصٌ يشبهكَ أو يفوقكَ فلا تقتلهُ لأنه سيكونُ الامتداد...يا بني أشعل الشموع في زمن كثر فيه دعاةُ الظلام....
تملى رحيم الإلماعة من كلّ جهاتها ثم نبس بحروف من نور: سأشعلُ الشموعَ التي كدتُ أطفئها في ميعةِ الشباب...فليحيا النور نصيرنا نحن الحيارى الذين حُكم علينا بالحجر...






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-