أغنيةُ العائدِ الأخيرة | رحيم دودي

أغنيةُ العائدِ الأخيرة | رحيم دودي



أغنيةُ العائدِ الأخيرة | رحيم دودي




كلّ المأسَاة نبتت في الصّمت. كانت ظلالُ الموتِ تباغتهُ في لحظاتِ غيابه وحضُوره. جسدٌ خاوٍ وذهنٌ تفترعهُ الصور السّوداء. وقفَ عند مفترقِ الطرقِ. تساءلَ، بوجعٍ مُمضٍ، أأحثُ الخطوَ صوبَ الجحيم أمْ أُقعي جالساً أنتظرُ تهرّي الجسد والذاكرة؟! نَهْبَ صورٍ مُبهمةٍ ومخيفةٍ رَزحَ مُتحيّراً يبكي كَثَكْلَى فقدتْ أسبابَ الحياة.



سعالٌ حادٌ جافٌ يتسلّق تجاويفَ الرئة وينفجر من الحلقِ قيحاً ممزُوجاً بدمٍ أسودَ. قلبٌ يخفقُ بعشوائيةٍ رعناء. مسحَ فيض الدّم بِكُمّهِ المتّسخِ. لم يكنْ يفكر إلاّ في أمّه البالغةِ من الكبر عِتياً وهي تتمسّح بقدميْه راجيةً منهُ المكوثَ قربها؛ لإنها لا ترغبُ أن تنطفئ، وحيدةً، في حُميا الظلامِ. تركها وحيدةً لصمتِ عُزلتها المستبدَّةِ وانزلقَ نحوَ قدرٍ آخر. في هذا الانزلاقِ غير المحسوبِ فقدَ روحهَ وكينونته فأضْحَى جثةً يابسةً. رجّتهُ صورة العجوزِ الملقاةِ أرضاً كزهرة تُوليب جوريةٍ دَاسَها مراهقٌ طائشٌ. بَكَى كَثَكْلَى يبّستْها حدَّةُ الألم وفظاعةُ الفَقْدِ.


تمرّغ في الثرى الأسودِ من شدّة الألمِ. انتفخَ صدرهُ فأصبحَ قنبلةً موقوتةً على أُهبة الانفجار. كانت أنفاسهُ تتذابحُ في صدرهِ لتتصاعدَ دخاناً إلى الحنجرة ثم ترتدُّ إلى دواخله. حوله الناس آلات مبرمجة تمضي بحس متبلّد. يمرّون حُذاءه ولا يرونه. وكأنّه اتخذَ بُعداً لا مرئياً في أحياز الميتافيزيقا القصيّة عن إدراك الإنسِ. فتحَ عينيه على السماء فألفاها سديماً مُتصلاً. تَبَرْكنَ داخلهُ بهواجسَ متناقضة ومتصادمة: هل سأموتُ قبلَ أنْ أطأَ عتباتِ موطن الحنانِ الأوّل؟ لِمَ أنتَ لئيمٌ أيها القدرُ المُغْتَصِبُ؟ أهكذا تُخْمدُني وبيني وبينَ الوحيدة ظلٌ وزهرةٌ؟ انغلقت عيناه وغارتا في مجحرين متورمين.

في ظلام عقلهِ النائمِ انهمرت التهاويمُ والطّيوف كالسّيل العميم. فيضانُ كوابيس يتسربُ من ثقوب اللاوعي، تتشظى الكوابيسُ إلى آلافِ الصورِ المرعبةِ. كلّ صورةٍ تخبئ شيطاناً تطلُّ من عيونه الحمراء أفاعٍ رقطاء. تقتربُ الشيطانُ منه، تدور حوله، تلحسُ أطرافهُ المتقيّحة، تلعق دماءه الفائرة بلذةٍ وقرفٍ. تنزلقُ الأفاعي من مواطنها المائة. تتلوّى حول جسده. تلسعهُ، تمصُّ ما فاض منه، تتغوَّر في أعماق لحمه الفاسد. يتحوّل جسدُه إلى جيفةٍ متعفنةٍ تنغلُها الديدانُ الشرهةُ. يرى روحهَ ترفرفُ فوقهُ كفراشةٍ تتراقصُ فرحا بعدَ تحرُّرها من ربقة الشرنقة. تهمسُ الفراشةُ في أذنه اليُسرى: لم تكن تنصتُ لتراتيلي وأناشيدي. لقد كنتُ غريبةً في جسدكَ. أُنْظُر كم أنا حرّة وطليقةٌ بعيداً عن سجنكِ الأصمّ. للسماءِ، وحدها، سأقول: كم كنتُ ميتةً داخلكَ. ثم حلّقت الفراشةُ عالياً، عاليا، عاليا، صارت نوراً واندفنت وسطَ البياض. حملق في البياض بصمت شديد. كان صوت خافت راعفٌ بالموسيقى يتناهى إليه على شكلِ همساتٍ دافئة: ابني...يا حبيبَ روحي...وحيدي الذي شرّدني حبُّك...في قلبي أخبّئكَ...وبدموعي أُغسّلكَ...


كانت العجوزُ تنظرُ إلى ابنها نظرة حنوٍ وحبٍّ. اشتعلت حرارة الحياةِ داخلها. لم تكن تظن أنّ الجثة التي عثرت عليها قربَ المنزلِ؛ جثة العائد من إسبانيا بعدَ غيابٍ مديدٍ، ستنتعشُ وتدبُ فيها الحياة. كم كانَ ألمها ممضَّا حينَ وجدته معفّرا بالترابَ قربَ سيارته المرسيديس السّوداء. سحبتهُ وَحدها -دون أن تعرف كيف فعلت ذلك- إلى البيتِ المُشيَّدة أركانه بالحجر والطين. وضعتهُ على سريره القديم الذي لم يفقد، في ظنها، يوماً رائحة طفولته. مدّدته ثم خلعت ملابسه، وأحضرت قِدراً من الأعشابِ البرية المغلّاة في ماءِ عينِ "أريلا" المقدس، ثم طفقت تدلّك تضاريس جسده الناتئ، وتضغطُ على صدرهِ بانتظامٍ ودقة. كانت رائحةُ الأعشابِ الجبلية تتسرّب إلى مسامِه بينما العجوز تغني بصوتٍ مَبحوحٍ، أليمٍ، ملتاعٍ. لم تكن الأغنيةُ تسيلُ وَفق إيقاعٍ محددٍ، وإنما كانت خبرةَ حياةٍ تتدفقَ على نحو يتماهى فيها نشيدُ الحياة بقداسة الحرف.

طفقت الحرارةُ تؤوب إلى كيانه المتخامدِ. اشتم رائحة الزعتر وأزير وزهور البراري تنبعث من تحتِ رأسه. حين فتح عينيه ألفى نفسه على صدر أمّه وهي تنشدُ أغنيةً عن الأرضِ والنهر والشّمس. ابتسمَ في وجهها ابتسامة حُبلى بالمعنى ثم غاب بهدوءٍ.







حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-