مشهد من يوم القيامة

مشهد من يوم القيامة

عن صفحة: ملنكُوليا 


مشهد من يوم القيامة









لم يكن الأمر سريعاً..بدأت الأعراض على مدى شهر ونصف، ثم تسارعت الأحداث مرتبكة ومتداخلة بشكل غير منطقي، لأنه لا شيء منطقي في نهاية شيء كان غير منطقي.
في البداية ضرب زلزال صغير أخاف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من سنتين إلى سبعين سنة، كان ذلك قبل عشرين يوماً، أتذكر أني كنت في مقر العمل، في قرية ليس لها تاريخ جيولوجي مع الزلازل، ثم استمر الأمر بضعة مرات طوال شهر، بالكاد أحسّ الناس بالهزات الأرضية، لكن الصخرة أعلى الجبل المقابل لنافذة غرفتي كانت قد غادرت مكانها دون أن ينتبه أحد. في الأخبار نشرت صور لبؤر زلازل صغيرة بالمئات لا تتجاوز الخمسة على سلم ريختر. فكرت في إحدى الليالي بأن الخلاص قادم، بدا القمر قريباً أكثر مما يجب من الأرض، دائرة حلقية من الفضة المشعة، ثم قمر دموي عملاق نادر سيظهر في اليوم الموالي، هكذا قالت المذيعة البدينة. ماذا لو سقط الآن؟ غير ممكن علميا، سيتفتت عند حد روش، بل يمكن علميا، هكذا قرأت في مقال على أحد المواقع، يمكن أن ينفلت من الجاذبية بعد ملايين السنين ثم يعود بقوة ويخترق حد روش، سيتفتت ويتحول إلى حلقة حول الأرض، مثل كوكب زحل، سيمكننا مشاهدة أجمل الحلي على الإطلاق، سلسلة ذهبية من الخلاص تحيط بعنق الأرض، ثم تنهال النيازك على أطياز البشر، من سيهتم للعلم إذا كانت النهاية قريبة، واضح أن الأنبياء سيكونون سعداء في الملإ الأعلى وهم يؤكدون لبعضهم البعض أن "العلم" مجرد مجهودات مكروسكوبية أمام عظمة الخالق، يا له من خالق، جعل صخرة بحجم رأس إنسان عربي تدور حول الأرض، أحسنت يا خالقي. لكن الخوف من سقوط القمر أو خروج كوكب عن مساره أو قدوم نيزك مثل "أبوفيس" ليس خوفا جبانا، إنها رهبة مشهد خرافي فشل لارس فون تريير في تقديمه بشكل جيد في نهاية فيلم "ملنكوليا":
(يفترض أن يشكل اقتراب الكوكب أو القمر ضغطا هائلا على قشرة الأرض أولا، بحكم تصادم جاذبيتين، فياضانات وهزات أرضية وانفجار اللافة من العمق، مشهد من وديان عملاقة وبحور كلها باللون البرتقالي الحار، ثم الفياضانات العملاقة الهائلة والصخور المهولة المتكسرة، والأرض السمراء التي تخسف وتميد فلا يبقى عليها شيء، فراغ لانهائي نحو الأسفل يفغر فمه، لن يبقى إلا الصراخ الذي لا يسمع من دوي وهول الواقعة..سيتبدد البشر ويتبخرون وينضغطون كالأقراص المُدمجة قبل أن يصدم الكوكب الأرض، لن يبقى أحد لرؤية انبثاق نواة الأرض الحمراء المشتعلة وتفسخها في ظلام الكون اللانهائي كلوحة زاهية ملونة من لوحات لُورُوي نِيمان).


كان حلما تخيلت فيه نهاية العالم تُنسجُ أمام كاميرا لارس فون تريير ليصحح خطأه هذه المرة وهو يضحك بوجهه البقري الغليظ..
نمت في الصباح، لم أذهب إلى الثانوية، في ماذا يفيد تعليم القرود المتطورة قيما أخلاقية ونظريات حول الأدب والفكر، سيموت الجميع على كل حال جهلة ومتعلمين، ما فائدة الهراء حول شكسبير والرموز في الشعر وخصائص نهاية الروايات، يمكن للقمر أو أي كوكب شارد أن يخلص الوجوه الصغيرة من عذابها اليومي مع المقرر الدراسي ومخاوف المستقبل المضحكة، لا مخاوف ولا طموحات ولا ضغوط، لا يهم السن ولا الشكل ولا المكانة ولا الروابط الهشة بين البشر ساعتها...سينكر الأب ابنه، فماذا عسانا نفعل مع علاقاتنا الاجتماعية المُعاقة؟ إنه لأمر مُضحك أن لا نستطيع الخلاص من كل شيء نافل إلا حين سينتهي كل شيء.
- لم أحضر البارحة سيدي المدير لدي متلازمة الخوف من سقوط القمر، كبدي ينتشي، معدتي ترتعد، مخي يتفسخ حين أتخيل أو أحلم المشهد.
لا أستطيع التركيز في العمل منذ أسابيع، سرعان ما يظهر القمر عملاقا يقترب من نافذة الفصل، يرخي بظل عظيم على الأرض، تختفي الشمس، تبدأ النوافذ بالانكسار، رجات هائلة، نهرب جميعاً إلى ساحة الاستراحة ثم تنشق الأرض ونسقط، تبدو لنا بركة اللافة العظيمة أسفل أقدامنا مبتهجة لاستقبالنا، وفوق رؤوسنا صخرة مرعبة لا حُدود لها في كل الاتجاهات، تصيبنا فوبيا الأشياء الضخمة، يصرخ تلميذ "أستاذ نسيت دفتري في المنزل".. "حسن لابأس سنذوب جميعا مع دفاترنا، لن أخصم نقطة من معدلك العام". قد نجري امتحانات كتابية في الآخرة، لعل الملائكة لا تسألنا واحدا تلو الآخر شفهيا، إن كان الامتحان كتابيا هل يمكن أن نغش؟ لا نحترق ونختنق ونذوب في الحمم البرتقالية إلا حين نكمل درس البلاغة، لابد أن نُثني على تشاؤم ابن الرومي وبلاغته الهجائية قبل أن نتفحّم ونتفكك في موجات البراكين الباطنية.
كان من الواضح أن المدير رأى أيضا حجم القمر، لم يطالبني بأي وثيقة تثبت الغياب، تشققت قارة أفريقيا من الوسط، بدأ شق صغير قرب كينيا منذ سنة 2018 وهو الآن في توسع دائم، هكذا قالت أستاذة الجغرافيا في قاعة الأساتذة، شكرا سيدتي أشعر الآن بالطمأنينة، لكن من الواضح أن شقك سيكون أكبر من شق القارة السمراء، "سنموت إذا، ستبتلعنا الأرض حتى آخر حبة من البشر" أجاب المدرس الذي بقيت له ثلاثة أشهر للتقاعد أو للموت، همس صوت مكتوم: "لقد ابتلعك بئر زوجتك منذ زمن بعيد"، ضحك الجميع.


يستخفون بالنهاية، يظل البشر معتقدين أنهم خالدون حتى آخر نفس يلفظونه، نحن مبرمجون عصبيا على رفض الموت والنهاية، نرفض تصديق موت طبيعي بسبب السن، تجد رجالا في السبعين يطاردون بنات في العشرين، فكيف لهم أن يتخيلوا فم الأرض وقد فُتح إلى أقصاه ليبتلع كل شيء..من لا يخاف من الموت بسكتة قلبية فوق فتاة أصغر منه بثلاثين سنة لن يعترف بكونه فانيا.
في الأخبار لم يكن هناك أي حديث آخر سوى عن انتشار فيروس قاتل سيصيب البشرية، الصينيون محط الأنظار، يأكلون كل شيء يتحرك مثلما ننكح نحن كل شيء يتحرك، كان هذا هو التفسير الشعبي لانتشار الفيروس القاتل، جاء من الخفافيش وحيوان آكل النمل، أطباق صينية شعبية بالحساء، أجنة مُجهضة بالتوابل والبهارات، كلاب مشوية على الفحم...لا، الولايات المتحدة من صنعته، بل هو عقاب من الرب السادي الذي صنعناه، أو لعله غير موجود أصلا. ظن الجميع أن الأمر سينحسر في شهرين أو ثلاثة، سيتغلب العلم على الفيروس، كان الناس شبه متيقنين رغم الخوف والذعر الذي انتشر فيما بينهم، في النهاية العالم ليس هشا، البشر يملكون العلم في جانبهم وبمقدورنا أن نصل إلى حل، قد يكلف الأمر سنتين لتعافي الاقتصادات، سيتم الدوس على رؤوس العبيد مرة أخرى كما يحصل دائما لتعويض الأغنياء. تعويضهم عن ماذا؟ على الضعفاء أن يعوضوا الأغنياء عن أي شيء يحصل ولا يحصل في الأرض، الأمر كان وسيبقى هكذا دائما. منذ خمسة شهور والجميع منشغل بانتشار الفيروس، تركوا كبار السن للموت، المهم هو أن يعيش العبيد القادرون على العمل والبغايا القادرات على اللعق. لم يهتم أحد لاتساع شق أستاذة الجغرافيا، لا أحد تخيل أنه يمكن أن يبتلعنا جميعا، فنغرق في لزوجة الفناء، ها هو ذا شق الأرض أحمر يتوسطه لسان صغير. كانت الزلازل لا تحظى باهتمام الناس، طمأن الجيولوجيون الناس إلى أنها مجرد نشاطات طبيعية للصفائح التكتونية، الأرض تحك ظهرها فقط، قد تزيح بعض الطفيليات، لكن ليس رقما مهما ...


بقي الأمر يتكرّر دوما إلى أن استيقظت مساء الأول من شهر ماي على حدث مدوي، سمعت صوت الأواني تتراقص في المطبخ، سقطت قارورة النبيذ من فوق الطاولة فاندلق الدم منها إلى خارج الغرفة، اهتز السرير بقوة، ارتجاج مُرعب، كان واضحا أن حدة الزلزال الذي فاجأ الجميع أعلى من الرقم خمسة بدرجة على الأقل، سمعت صراخ الناس في الخارج، ثم جارتي، كانت تصرخ فأضحك لأني أعرف السبب، أما الآن فلا، هدأ الأمر قليلا، أشعلت التلفاز، لا وجود للبث، خرجت مُسرعا وطرقت بابها، حين فتحت كان الدم يسيل من رأسها وعلى عينيها نظرة رعب شيطاني، هل هو وجه جارتي أو وجه إيفان الرهيب؟ ظهر خلف الباب المُوارب جزء من السقف وقد سقط على زوجها وأبنائها، علي أن أسرع إلى المستوصف، لا يوجد إسعاف في القرية، سيجلبون حافلة الأزبال أغلب الظن، لكن الجميع في الخارج والأرض عادت لترقص مرة أخرى، بالكاد أسير وأسقط، على طول الشارع الصغير المؤدي إلى مركز البلدة كان هناك سطر بشري طويل، يمتد البشر فيه مثل حروف وفواصل ترقيم مرتبكة، البعض يبكي على منازل سقطت وآخرون متحلقون حول أُناس ساقطين على بطونهم مثل الجراد، هناك دماء في كل مكان، جداول صغيرة من الدم، الكل مرتعب ويتسمك بالأشياء والآخرين والأشجار والأعمدة، هربوا ما أمكن من قرب البنايات، وعبد القادر مجنون الحي العاقل كان يقفز مع رجات الأرض ويصرخ "ربي جاء، جاء ربي" ويضحك بهيستيريا، كان يسقط ويقوم وهو يضحك بفمه الخاوي من الأسنان، وكأن عينا ثالثة انفتحت في جبهته، نظر إلي وهو يهتز كخلاط كهربائي، كنت أتمسك بعمود كهربائي مثبت بعمق في الأرض على دائرة من الإسمنت.
رفعت رأسي إلى السماء، لم يظهر شيء، السحاب كثيف جدا، ضحكت حين تذكرت فرضية كوكب نيبيرو والأنوناكي الغبية، لكن في مشهد مماثل تتوقع أن يخرج أي شيء من الضباب، إله أو شيطان أو سربروس الكلب ذو الرؤوس الثلاثة، يلتهم كل ما في طريقه والأرض ترقص. لم تمر لحظات حتى انقشع السحاب بشكل غريب وبدت السماء رهيبة سوداء بالكامل، وزاد ارتجاج الأرض، تعالى الصراخ والعويل، تساقط ما تبقى من البنايات والأعمدة وتحركت الأرض تحتنا وكأنها حصير يُسحب، النساء يبكين والرجال أيضا، خراب بومبي Pompei، مدينة المعاصي، لكننا هنا نتحدث عن كوكب المعاصي، والبعض يخلط بين اسم الله والشيطان، يدعون بأسماء الأولياء والشيوخ، ورغم صعوبة الاستماع للأصوات صار بعضهم من هول الصدمة يغني، يطلبون من الله أن يتراجع عن قراراه على مقام البياتي، رائحة البول والغائط انتشرت بسرعة، صوت شبيه بالرعد، لكن أقوى بعشرات المرات، تبولون الآن، أين كنتم حين كان الأنبياء يطلبون منكم بعض النساء والزكاة فقط؟


نزلت صخور الجبال الصغيرة المحيطة بالقرية مثل الجياد السريعة، ضحكت وجسدي يتمايل حين تذكرت درس المعلقات السبع: "كجُلمودِ صخرٍ حَطّهُ السيل مِن علِ"، صارت الصخور تدك البنايات والأزقة والبشر والبهائم والصناديق والأشياء جميعا، تهدمت المنازل والبشر يسقطون كالذباب، دقت الساعة وانشق القمر، يصطدمون بالأشياء والأشجار والصخور فتتمزق الأجساد أشلاء على ارتفاع أمتار من الأرض التي بدأت تتشقق، انفلق بناء المسجد الكبير فسقط على كل من احتموا به، ظنوا أن النهاية ستحصل في كل مكان إلا في فناء المسجد..ومن الأعلى أطل سواد عملاق يقترب، بدا أصغر من القمر قليلا، من الواضح أنه كان يقترب بسرعة هائلة من مسافة بعيدة لكنها لا تعني شيئا في سلم السنوات الضوئية، هل حجمه كبير مثل أول كوكب صدم الأرض (Thea)، هل هو كوكب "طيّا" ونحن اخترقنا سرعة الضوء فصرنا نعيش حاضرنا ماضيا؟.
كنت متشبثا بعمود كهربائي حين رأيت حاجزا أزرق على علو آلاف الأمتار قادما من بعيد جهة الغرب، كانت القرية تقع على بعد أقل من مئتي كيلومتر عن المحيط الأطلسي، تلك أمواج أعظم تسونامي عرفته البشرية قطعا، سيكشط البرية كاملة، زلزال مُرعب في عمق البحر، لابد أن الأرض ستُخرج أثقالها من قلب البحر أولا ولن يقول الإنسان ما لها، فالجميع يعرف ما يحدث قطعا، ولا أهمية لأحد الآن..كانت الأمواج تلقي بظلال تحجب الشمس، الشمس التي عبدها البشر قديما والآن تتفرج عليهم وتضحك، لابد أن كل بقاع الأرض تتقشر مثل البيضة المسلوقة، ثم سرعان ما يبدأ البياض في التشقق ليبلغ النواة. سار كل شيء بالنسبة لي في ثوان معدودات، ارتفعت بي الأرض حين اقتلع الزلزال العظيم دائرة الإسمنت التي أقف عليها، بدا الأمر وكأنه حلم غريب، ارتفعت كاملا مثل قشة في الريح، طوح الزلزال بجسدي عاليا، اعترتني رعشة ونشوة مُفاجئة، الأدرينالين يتدفق في عروقي، سمعت صوت شيء يسري داخل أعصابي، ارتفاع هائل جعل رئتي تتقلصان والبرد يسري في عروقي رغم أن الأرض مشتعلة كاملة، والجو مليء بالأشياء والقطع والغبار والمياه والأشجار والحديد والرياح، ثم من علو ثلاثمائة متر بدا قلب الأرض برتقاليا جميلا، قُضي الأمر الذي كنا فيه نختلف، المنازل والحيوانات والبشر والسيارات والأشجار والأتربة وعواميد الكهرباء والأسقف والمنشآت وقطع الحديد والتلاميذ والذكريات القبيحة والجيدة، كل شيء يُصهر في لافة بركانية مسحت أرض القرية كاملة وما يحيط بها من مساحات شاسعة، ولعلها حال كل بقاع الأرض إن جاز أن نسميها أرضا !، خيوط ذهبية هرقلية من الحمم تصب في سفح عميق ظهر فجأة تحتنا ونحن نصرخ ونغني ونختنق ونحترق في تلك الثواني، سفح هائل يأخذ إلى اللانهاية المُظلمة، وعلى مرمى البصر كل شبر من الأرض صار هشا يتهاوى في الفراغ، شلال من الأشياء المتهاوية إلى اللامكان، كل شيء يتلاشى، مشهد دمعت عيني من جماله، تجاوزت الخوف في تلك الثواني، رئتي تحترق، كل بشري ساعتها أدرك حقيقة عبث كل شيء وإبهار اللامعنى الرائع، لماذا الخوف إذا، فراغ الكون سيضمنا جميعا، لا تعذيب، موت في ثوان معدودات للجميع، بضمان عدالة في الفرص والتوزيع، يا له من مشهد مُروّع، لم يكن بمقدور السينما أن تصل شيئا مماثلا، خيالنا طال ما كان محدودا، فلتمجد خيال الرب العظيم !


زهقت روحي رغما عني، أردت أن أتابع عظمة النهاية كاملة وأنا في وعيي، لكن ضبابا أخذ يتوسط شبكة العين ودماغي يرتاح وكأنه حاسوب يتوقف، الريح الساخنة كانت قد قشرت جلد جسدي، عظام ساعدي بيضاء رائعة، ترى كيف يبدو وجهي بدون لحم، تعاليت، انفصلت، ثم رأيتُ جسدي يسقط نحو الفراغ مرتعدا ومُنتفضا لا إراديا مثل دمية مُهترئة، شعرت بانفصال غريب بيني وبين نفسي، بدا جسدي وهو يبتعد نحو الأسفل كبيت وُلدت وترعرعت فيه، لكنه يتهدم وتتهدم معه كله مشاعري وتجاربي ووجودي، صرت خفيفا بدون أبعاد، لا يمكنني من هذا الارتفاع أن أنظر إلى مكان ما وأقول هذا أنا، لكني كنت أبتعد عن الأرض في الوقت الذي تتخرب فيه كاملة وتشتعل نواتها مثل مفاعل نووي مُرعب لا مقاييس بشرية يمكن أن تصفه أو تحده، ارتفع الصوت الرهيب حتى أن كل من تبقت روحه في جسده انفجر، بدا مشهد انفجار الحيوانات والأشياء والأجساد والرؤوس مثل فرقعات رأس السنة، لكن بلون مغاير، فوق ذلك الانحلال الجنائزي العظيم، كان هناك شيء أسود تغزوه عروق حمراء كالنار يقترب أكثر فتتفكك الصخور الكبيرة والطبقات الباطنية لما تبقى من الأرض ...سرعان ما تضاءل حجمها ولم يعد يظهر منها إلا أسراب هائلة من القطع تطير في خيوط منتظمة نحو الأعلى، في مشهد رباني رهيب، ملتفة حول نواة مُشتعلة، كانت الصخور والأتربة تطير إلى أعلى نحو الكوكب الأسود وأنا لا أفهم كيف اكتسبتُ زاوية رؤيا لكل ذلك الشيء الذي لا يمكن رؤيته بالعين سوى من جزء لا يتجزأ منه، كنت أرتفع بعيدا عن المشهد كله كأني خرقت كل قوانين الفيزياء، سرقني عزرائيل إذا، أهكذا يكون الموت؟ كيف صرت لاجسدا وخرجت عن نطاق الحدث إلى مدار هادئ، مدار بعيد عن ضوضاء الفناء، بدا الكوكبان معا من تلك الزاوية التي وجدت فيها روحي مثل العاشقين في لوحة "ماغريت"، يقبلان بعضهما من خلف حجاب، شعرت كأني نور خفيف لا كتلة له، لعل هذا الهدوء المطلق واللاإحساس الانسيابي هو كوننا صرنا جزءا من العدم، بقيت مشدوها لروعة المشهد الكوسمولوجي الهائل، حيث تتطاير الشظايا والسائل الأبيض وموجات كهرومغناطيسية هائلة ترمي كل شيء بعيدا، لكن الجسمين يلتحمان، يتداخلان بعنف مراهقين أحبا لأول مرة، إلى أن سمعت صوتا غريبا في كياني يشبه أغنية قديمة، ثم انطفأت، وكان آخر ما رأت عيني، بقايا زرقة مائية تائهة في فراغ الكون، تُبرقُ بشكل ساحر حين تخترقها أشعة الشمس العظيمة وفُتاتا كوكبيا مثل شظايا زجاجة نبيذ كسرها الرب، السلام على العالم..



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-