[حصريّ للغايَة] تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة نهر الجنون | توفيق الحكيم


منهجيّة تحليل نصٍّ مسرحي | تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة نهر الجنون | توفيق الحكيم



منهجيّة تحليل نصٍّ نثريّ/مسرحي: تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة نهر الجنون | توفيق الحكيم


إعداد الأستاذ: محمد البوعيادي

مكوّن درس النصوص
نص تطبيقي: المسرحية
للسنة الثانية بكالوريا آداب وعلوم إنسانية


أولا: تأطير النص:


بعد أن رأينا في الحصة السابقة أهم الأشكال ما قبل المسرحية التي عرفتها مختلف حضارات وآداب العالم في ارتباط بالطقوس الدينية والاحتفالات وأشكال الفرجة الشعبية، وتتبعنا نشأة الفن المسرحي عند اليونان بدءا من أرستوفان وانتهاء بأرسطو الذي وضع بعض قواعد المسرح الشعري عند اليونان في كتابه "فن الشعر" ( الفصول الثلاثة – الزمن الموحد – المكان الموحد)، ورأينا كيف ثار الفرنسيون على هذه القواعد وحرروا المسرح من قيوده مع فكتور هيكو Victor Hugo في المقدمة النقدية لمسرحية "كرومويل"، وجب التذكير بأن دخول الفن المسرحي إلى "العالم العربي" جاء متأخرا جدا، فبالرغم من توفر التراث العربي والفنون الشعبية على بوادر المسرح وقابلية الثقافة العربية لاحتضان هذا الشكل الأدبي، إلا أنه لم يصلنا في شكله الفني المكتمل حتى نهاية القرن التاسع عشر، خاصة من جهة اللبنانيين، الذين كانوا على اتصال مباشر بالثقافتين الفرنسية والإنجليزية، فقد قام مارون النقاش بترجمة أعمال موليير Moilère وعرضها في منزله لجمهور صغير، ونخص بالذكر مسرحية "البخيل"، ومن تلك اللحظة انتشر الفن المسرحي في باقي الدول الناطقة بالعربية، خاصة سوريا ومصر، وصار جزءا من التقاليد الأدبية. هكذا ظهرت تيارات واتجاهات في المسرح العربي حسب تصورات الكتاب ومنطلقاتهم الفكرية، فازدهر المسرح الديني مع أحمد علي باكثير، وتطور المسرح الاجتماعي ذو الحمولة النقدية مع توفيق الحكيم في مسرحيات استمد شخوصها من الواقع المصري "الفلاح الفصيح" "يا طالع الشجرة" "نهر الجنون" "أهل الكهف" إلخ وأسفرت الكتابة المسرحية عن اتجاهات متعددة، كالاتجاه النفسي الرمزي عند المسرحي السوري سعد الله ونوس، والمسرحيين المغاربة المسكيني الصغير ومحمد مسكين، دون أن ننسى اتجاه المسرح الاحتفالي مع عبد الكريم برشيد والطيب الصديقي، والذي يعتبر المسرح امتدادا لثقافة الاحتفال الشعبية.


ثانيا: ملاحظة النص

أ‌. ملاحظة العنوان:

- تركيبيا: نهر: مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة، وهو مضاف الجنون: مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة. والخبر محذوف تقديره في النص.
- دلاليا: يحيل العنوان على وجود علاقة خفية بين النهر، بما هو مصدر للماء (بالنظر إلى كل استعمالاته) وبين ظاهرة الجنون التي تفيد خللا في القدرات العقلية قياسا إلى المعنى العام للعقل، فأي علاقة تربط بينهما؟

ب. فرضية النص:

انطلاقا من بداية النص ونهايته ومدلول العنوان، يمكن أن نستجلي عدة افتراضات حول مضمونه، فقد يكون النهر تعبيرا مجازيا عن الحياة واتسامها بالعبث والجنون، كما يمكن أن يكون ماء النهر الشروب مسؤولا عن ظاهرة الاختلال العقلي، أو لربما ليس الأمر سوى تسمية لمكان يجتمع فيه المجانين لسبب ما.


ثالثا: فهم النص

أ‌. المعجم:

رأس الكهان: كبير الكهنة
رأس الأطباء: كبير الأطباء.

ب‌. الفكرة العامة:

بعد قراءة النص اتضح أن فرضية علاقة شرب ماء النهر بالجنون هي الأصح، فالمسرحية تحكي قصة ملك حلم أن نهر المملكة تسمم بعد أن نزلت به أفاع سوداء، وأن كل من شرب منه صار مجنونا، فباستثنائه ووزيره المخلص، شربت الملكة وكبيرا الأطباء والكهنة وكل أفراد الشعب. لكننا نجد هؤلاء جميعا يتهمون الملك نفسه بالجنون بسبب كثرة إدمانه على شرب الخمر، الأمر الذي دفع وزيره إلى نصحه باتباع كلام الشعب والشرب من النهر حتى لا يثوروا عليه ويخلعوه من الحكم، وهو ما تم في النهاية، إذ استسلم الملك لرأي الأغلبية.




رابعا: التحليل

أ‌. دراسة القوى الفاعلة:

 (سمات الشخصيات الداخلية والخارجية وأهم أفعالها)
ساهمت في تطور أحداث النص قوى فاعلة متعددة معظمها بشري، وجزء منها طبيعي، فأما القوى البشرية فنجد على رأسها الملك، وهو رجل "حازم الرأي" طيب ومحب لشعبه، لكنه حالم وسكير (يشرب النبيذ عوض ماء النهر)، الأمر الذي أثر على مصداقيته لدى الشعب، ولم يحدد النص أية سمات جسدية خارجية له. ثم هناك شخص الوزير، وهو ثاني أهم شخصية في النص، ولم يخصص له الكاتب سوى السمات النفسية والعقلية الأهم، الوفاء والحكمة والصبر، فأهم فعل قام به في النص كان هو النصح الحكيم للملك باتباع اعتقادات رعيته حتى لا تضيع الدولة ويعم الخراب والفوضى، ثم نجد شخصية الملكة، التي يصفها النص جسديا بالجمال ونفسيا بالوفاء والمحبة، ومعها شخصيتا كبيري الكهنة والأطباء، وكلاهما يتصفان بالعجز عن إيجاد حلول لوباء الجنون الذي أصاب الملك، خاصة كبير الكهنة الذي وقف حائرا أمام طلب الملكة منه استنزال معجزة لإنقاذ الملك، فلم يجد جوابا. وأخيرا نجد شخصية "الشعب" التي تتصف بالهيجان وغلبة العاطفة على العقل والتفكير، فبمجرد أن وجدوا فرصة مناسبة نشروا إشاعة جنون الملك دون التفكير في دوافعه وتحليله للأمر واستعدوا لخلعه مباشرة. وأما القوى غير البشرية، فنجد عنصر النبيذ الذي له دور مهم في النص، فبالرغم من تيقننا من عقل الملك وحكمته، غير أن معرفتنا أنه فضل شرب النبيذ على ماء النهر تجعلنا نتساءل إن كان الشعب فعلا هو المجنون أم العكس، ينضاف إليه عنصر النهر، فهو موضوع الخلاف بين الملك وشعبه، ولا نعلم حق اليقين إن كان فعلا مسموما أم أن رؤيا الملك مجرد هلوسات ناتجة عن إدمانه، وفي كل الأحوال فقد لعبت هاتين القوتين الفاعلتين دورا مهما في تطور أحداث النص وبنائه.

ب. دور المكون الحواري:

لعب الحوار الخارجي باعتباره الميكانيزم الأساسي لبناء النص المسرحي أدوارا متعددة، فمن جهة أولى ساهم في تطوير الأحداث ودفعها نحو نهايتها، لأننا لا نجد تقديما للحدث إلا عبر مقاطع الحوار المتبادل بين الشخصيات، ومن جهة ثانية بسط أمامنا خصائص الشخصيات الجسدية والعقلية والنفسية وأهم أفعالها داخل فضاء المسرحية، ومن جهة أخيرة شكل همزة وصل بين الشخصيات، فالعلاقات القائمة بينها تكشفت كلها عبر الحوار الثنائي، خاصة علاقة الوفاء والنصح بين الملك ووزيره وعلاقة الحب والحماية بين الملكة والملك. ناهيك على أنه يشكل جسد النص ونسيجه، فلا وجود لباقي تقنيات الحكي المعهودة مثل السرد، ولعل هذا التركيز على تقنية الحوار أهم سمات النص المسرحي.


ج. الصراع الدرامي:

يكشف الصراع الدائر بين شخصيات المسرحية، الملك ووزيره من جهة والشعب والملكة وكبيرا الكهنة والأطباء من جهة ثانية، عن صراع خفي بين القيم، وهو لب وجوهر هذا العمل الأدبي، فهناك صراع أولي بين الحقيقة والزيف، فنحن لا نعرف منْ من الطرفين على صواب، لأن في النص مؤشرات ومعطيات قابلة للتأويل المزدوج، نجد الشعب هائجا ومحتكما للعاطفة فنكاد نصدق الملك، لكننا سرعان ما نكتشف أنه بنى كل فرضيته على مجرد حلم ورؤيا، وأنه مدمن على الخمر، فهل يصح بناء الحقيقة على معطى ضبابي غير واضح مثل الحلم؟ وما يزيد الأمر صعوبة هو كون الوزير الذي يصدق الملك أعطى إشارات عن نضج عقلي وبصيرة حادة، والملك نفسه قال العبارة الفاصلة في النص "يُخيل إلي أن المجنون لا يدرك أنه مجنون" ومعلوم أن المختل عقليا لا يستطيع التفكير في حالة الاختلال ولا افتراض إمكانية جنونه. ويطرح النص صراعا فكريا من نوع آخر حين يتعلق الأمر بتعريف الحقيقة، فهل تتحدد الحقيقة بشكل فردي بناء على معطيات ذاتية أم على معايير موضوعية، وهل يمكن اعتبار الرأي العام الشعبي معيارا للحقيقة؟ في هذا السياق ذاته نسائل استسلام الملك لرأي الأغلبية، هل من الضروري التضحية بالعقل في سبيل تحقيق الأمن العام؟ إن صراعات هذا النص المسرحي ترتبط مباشرة بصراعات المجتمع البشري، وإشكالية الحكم السياسي في علاقتها بالشرعية المستمدة من الشعب أو من العقل السياسي الموضوعي أو الذاتي.

د. رموز النص:

جاء النص مليئا بالرموز الاجتماعية والفكرية، فهو بمجمله يمكن أن يشكل قاعدة لتحليل واقعنا الاجتماعي والسياسي الحالي، إذ يشكل الملك رمزا للقائد السياسي الذي يبني قراراته وقناعاته على معطيات ذاتية غير موضوعية، في حين يرمز الوزير إلى السياسي العاقل الذي ينظر إلى القضايا بمنظار الموضوعية والحكمة، أما الشعب فرمز للغوغائية والتسرع وغلبة الأهواء، في حين يشكل النهر، وهو موضوع الخلاف، رمزا للحياة ككل وللمعيش، فقضايا المعيش مركز تجاذب واختلاف دائم بين الشعوب وحكوماتها وبين أفراد المجتمع البشري على الدوام.

ه. مقصدية النص:

يهدف هذا النص إلى تنبيهنا وتوعيتنا حول قضايا سياسية واجتماعية وفكرية هامة، منها أهمية الاحتكام في تحديد الحقيقة إلى العقل والمنطق والتجربة وليس إلى الأحلام والرؤى غير العلمية أو إلى العاطفة الشعبية، فكلاهما مجانب للصواب ويسقطنا في المغالطات، كما يبين لنا صعوبة التمييز بين الصواب والخطأ فالأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها الناس عادة، إذ يمكن أن توجد قرائن متناقضة تعطي للحقيقة وجهين أو أكثر، لذلك فاعتماد مبدإ نسبية الحقيقة ضروري جدا لتفادي الفوضى والخراب الاجتماعي، كما يوضح لنا بالملموس واحدة من أخطر الممارسات السياسية التي تتسبب في تخلف المجتمعات، وهي خضوع الحكم السياسي للثقافة الشعبية والمزاج العام.

خامسا: تركيب

ختاما، يمكننا أن نصف هذا النص المسرحي القصير بالنموذجي، فقد ضم مختلف مكونات المسرحية وخصائصها، وأهم طرق بنائها، كما أنه قدم شخصيات تتسم بالتناقض الطبقي والفكري والنفسي أسهمت في رسم ملامح الصراع القيمي الدائر حول موضوع الحقيقة، دون أن ننسى البعد التربوي الكبير الذي يتسم به، حيث يعلمنا ضرورة إعادة التفكير في مسلماتنا والأسس التي نبنيها عليها.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-