درُوس أولى باك: مكوّن درس النّصوص | المجزوءة الثالثة: مفاهيم

درُوس أولى باك: مكوّن درس النّصوص | المجزوءة الثالثة: مفاهيم

درُوس أولى باك: مكوّن درس النّصوص | المجزوءة الثالثة: مفاهيم   



الحداثة


إنجازات الحداثة


ظلّت تجربة الحداثة الغربيّة مُحَمّلة بالآمال العريضة في تحقيق سعادة الإنسان، وفي إقرار العدالة والمساواة بين الناس في المجتمع الواحد، بالإضافة إلى آمالها في تحقيق المعجزات في مجال التقدّم الفني.
ولعلّه من العسير اليوم القيام بجرد حسابي دقيق ومُقارن بين ما حقّقته الحداثة الغربية في مُختَلف مُستَوياتها، وبين ما كان مُنتظَراً منها. ذلك أنّ إنجازات الحداثة هي من الاكتظاظ والسرعة بحيث يُصبح من المتعذّر إحصاؤها كلّها. لكن، في إطار نوع من المقارنة والشمولية؛ يمكن القول إنّ مَا حقّقته الحداثة الغربية في مجال معين هوّ أضخم بكثير ممّا وعدت به، وبأنّ ما أنجزته في مجال آخر هو أهزل بكثير مما وعدت به.


حقّقت الحداثة العلمية التقنية آلاف المعجزات، إذ اكتشفت مجاهل الكون بمجراته اللامتناهية، ولا نهائيته في الزمان والمكان، واكتشفت الثنايا اللاّمرئية للمادة من إلكترونات ونيوترونات وما يكتنفها من حركيّة دائمة؛ ممّا مكّنها من تسخير العديد من المخترعات لصالح الإنسان، فقد طوّر التقدّم التقني أشكال الإنتاج المختلفة، وزوّد الإنسان بقدرات وطاقات كانت في الماضي من قبيل السحر، وجعل الإنسان يصبح فعليّا سيّد العالم.


لكن بموازاة هذا التقدّم العلمي والتقني المهول، حدث نوع من التعثّر والخلل في تحقيق ما كان ينتظر من الحداثة في المجال الإنساني والاجتماعي. فرغم أنّ الحداثة السياسية قد أفسحت المجال واسعاً أمام فئات عريضة من السكان ليصبحوا مواطنين ذوي حقوق سياسية واجتماعية، فإنّها، في ذات الوقت، قد فشلت في تحقيق شعار المساواة، وبالحركة نفسها التي هيّأت بها الناس لتبني مشروع تحرّرهم الذاتي والاجتماعي، قد أسهمت في تهيئتهم لتلقّي وقبول الخضوع والاستبداد.
لذلك، يمكن أن نقول إنّ الحداثة الغربية حقّقت في جانبها العلمي والتقني ما كان منتظراً بل أكثر، لكن هذه الإيجابيات تضمّنت أشكالاً من الهيمنة الثقافية والسّيطرة الاقتصادية والفشل في تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين النّاس.


غير أنّ كل ذلك لا يغيّر الحداثة ما دامت مليئة بالوعود والآمال، وما دامت، كما يقول هابرماس "مشروعاً لم يكتمل بعد"؛ مشروعاً قابلاً للتّعديل والتصحيح والتّوجيه.
- محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، نشر دار توبقال، الطبعة الثانية، 2007، صص 51/52، بتصرّف.










الحداثة


يشتكي الباحثون في موضوع الحداثة من صُعوبة تحديد مدلولها، إذ أكدوا أنّه ليس من السهل الإمساك بمصطلح الحداثة، والوقوف على تعريف شامل لها. ويرجع ذلك إلى تشعّب المجالات التي يتردّد عليها هذا المصطلح، لكونه مرتبطاً بالفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ومختلف مناحي الحياة، وإلى اختلاف الرؤى والمواقف والآراء بين المفكّرين والباحثين حول أصوله التاريخيّة، والظروف التي أحاطت بنشأته وتطوّره.
ولهذا، فالحداثة "ليست مفهوماً سوسيولوجيّاً، أو مفهوماً سياسيّاً، أو مفهوماً تاريخيّاً بحصر المعنى، وإنّما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد...ومع ذلك، تظلّ الحداثة موضوعاً عامّاً يتضمّن في دلالته إجمالاً الإشارة إلى تطوّر تاريخي بأكمله، وإلى تبدّل في الذهنيّة".
نفهم من هذا أنّ الحداثة تتضمّن عوامل القطيعة والتحوّل والتغيّر داخل المجتمع، بل تتجاوز جميع مظاهر التّقليد؛ لكونه يشمل مجموعة من القيم والرموز والتصورات المرتكزة على الماضي والمتجسدة في الحاضر. ولذلك فإنّ مهمة التقليد هي الحفاظ على الأوضاع القائمة التي تقدّس الماضي، والدخول في مواجهة التحوّلات والتغيّرات الذهنية والسلوكية الطارئة في المجتمع.
فالتقليد بهذا نمط تكراري ومُحافظ مُلتزم بقواعد السلوك المحدّدة من طرف الماضي بمختلف مرجعياته. وتصبح الحداثة خطّاً حضاريّاً ضاغطاً، مُتسارع الأحداث متّجهاً صوب المستقبل، وفي الوقت ذاته يتعارض مع الخط التقليدي في التفكير والعمل، أي يتناقض مع كلّ ملامح الثقافة التقليدية التي تعتمد في وجودها على الموروثات والمسلّمات التاريخية من الأفكار والتصوّرات...
وتبعاً لهذا، تبرز الحداثة وكأنّها بوابة ينفتح من خلالها الإنسان على الكثير من المفاهيم المجاورة، مثل التقدّم والتطوّر والتحرّر وغيرها، والتي تمثّل شروطاً لهذا الوعي الذاتي الذي يصبو إلى سيادة الإنسان على الطبيعة والمجتمع، وفي رغبته المستمرة في التّغيير، وفي استشراف آفاق مستقبله الواعدة.

- بوزبرة عبد السلام، طه عبد الرحمن ونقد الحداثة، جداول للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى يناير 2011، ص 26  وما بعدها، بتصرّف.








مفهوم الحداثة


لعلّ من العسير كل العسر تطويق معنى الحداثة وضبط كلّ مكوناتها، وإنّما يكون من اليسير رصد بعض معالمها في بعض المجالات. فالحداثة هي ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميّز بدرجة معيّنة من التقنيّة والعقلانية والتعدد والتفتّح. والحداثة كونيّا هي ظهور المجتمع البورجوازي الغربي الحديث في إطار ما يُسمّى بالنهضة الغربية أو الأوروبية، هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعيّاً تُحَقّق مستوى عاليا من التطوّر مكّنها ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى، ممّا أدّى إلى ما يسمى بصدمة الحداثة، وخاصة بالنّسبة للمجتمعات التي تلقّت نتائج الحداثة من دون أن تكون مهدها أو مخاضها المباشر.
إنّها إذاً خلخلة تتفاوت قوّة وعنفاً في جميع مستويات الحياة في المجتمعات التي عانت الحداثة، إمّا داخليا أو نتيجة صدمة خارجية، فالحداثة تخرج هذه المجتمعات من دائرة التكرار والاجترار والمراوغة وتفجّر دينامية التحوّل بما يستتبع ذلك من اهتزاز في القيم والعادات والهويات، ومن تقطعات تلحق وتيرة الاتصال والاستمرار.
وإذا كان من العسير وضع سلم معياري مضبوط لقياس مظاهر الحداثة، فإنّ من الممكن على الأقل تعيين بعض مظاهرها وبعض درجاتها كما أنّ من الممكن الحديث عن عتبة للحداثة، لقاء غياب صرامة المفهوم، إذا، يمكن الحديث عن عتبة ودرجات ونسبية الحداثة.

- مدارات الحداثة، محمد سبيلا، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى بيروت 2009، الصفحة 124/123.







رُوح الحداثة


لا يخفى أنّ التعاريف التي وُضعت لمفهوم "الحداثة" تعدّدت وتنوّعت، فقد عرّفها بعضهم بكونها حقبة تاريخية مُتواصلة ابتدأت في أقطار الغرب، ثم انتقلت آثارها إلى العالم بأسره، مع اختلافهم في تحديد مدّة هذه الحقبة، فمنهم من قال بأنها تمتد على مدى خمسة قرون كاملة، بدءاً من القرن السادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، ثمّ حركة الأنوار والثورة الفرنسيّة، تليهما الثورة الصناعية، فالثورة التقنيّة، ثمّ الثورة المعلوماتية، ومنهم من جعل الحقبة التاريخية أدنى من ذلك حتى تنزل بها إلى قرنين فقط.
وعرف بعضهم الآخر الحداثة بصفات طبعت بقوة عطاء تلك الحقبة، مع اختلافهم في التعبير عن هذه الصفات وعن أسبابها ونتائجها، فمن قائل إنّ الحداثة "هي النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر"، ومن قائل إنّها "ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية: السيادة على الطبيعة والسيادة على المجتمع والسيادة على الذات"، بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة، فيقول إنها "قطع الصلة بالتراث" أو إنها "طلب التجديد" أو إنها "محو القدسية من العالم" أو إنها "العقلنة" أو إنها "الديموقراطية" أو إنها "حقوق الإنسان" أو "قطع الصلة بالدين" أو إنّها "العلمانية"، وأمام هذا التعدّد والتردد في تعاريف الحداثة، لا عجب أن يقال كذلك إنها "مشروع غير مكتمل".
والملاحظ أن هذه التعاريف – على اختلاف قوة إحاطتها – بمفهوم "الحداثة" تقع في تهويل هذا المفهوم حتى تبدو الحداثة وكأنّها كائن تاريخي عجيب يتصرّف في الأحياء والأشياء كلها تصرف الإله القادر، بحيث لا راد لقدره، والحال أن هذا التصور للحداثة غير حداثي، لأنه ينقل الحداثة من رتبة مفهوم عقلي إجرائي إلى رتبة شيء وهمي مقدّس، لذلك يتعيّن أن نتخلّص من هذا "التشيئ" الذي أدخلته هذه التعاريف على مفهوم الحداثة، وذلك بأن نفرّق في الحداثة بين جانبين اثنين هما: "روح الحداثة" و"واقع الحداثة".

- د. طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، الطبعة الأولى 2006، ص: 23/24، بتصرّف. 



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-