جُوليَا ومَرايا السّجنِ الأبيَض


جُوليَا ومَرايا السّجنِ الأبيَض



جُوليَا ومَرايا السّجنِ الأبيَض

عبد الرّحيم دَودِي

ص.ع.1

لِيكنْ الأَمْرُ كَذَلِكَ...
هَاجسَ نفسهُ بالعبارةِ اللاّذعة وهمّ بالانصراف. كانتِ الشّمس، فوق سقفِ الكونِ، تتلوّع محتدّة. وكانَ قَلبُه أشدّ التياعاً من هذه الشّمس. لا يهمّ، فهذه الحياةُ مُشرعةٌ على كلّ احتمالاتِ الارتياب. مَا بالُ جوليا! ربّما تهيّأ لها، بُحكم الاعتيادِ واستشراءِ التّفاهة، أنّ خلفَ الإصرارِ قصداً مُريباً، لابدّ. كانَ رهاناً فاشلاً؛ فثالثة الأثافي، كانت على النّحو السّائد. كلامٌ مَلصُوقٌ وقلبٌ تائهٌ لا يفقَه أسرار الحياةِ! الشّمس تَسُوطُ رأسهُ بأسياخٍ من نار. السّؤالُ قاسٍ: لِمَ تُرسلُ وَحيَكَ، هذا المدموغ بقسوةِ الخيالِ، إلى البلادِ البعيدةِ؟ ضَعهُ تحت مؤخرتكِ يا هَذا. إنّها لن تفهمَك. سَتَذهبُ بها الظنون في كلّ المسارب. أي نعم، في كلّ المساربِ، حتى تلك القصيّة الأبيّة على الارتياد. هاهُنا نظر إلى هاتفه. كالعادة لا رسالة تفكّ شفرةَ الحرّ الطّاغي في الأرضِ وفي السّماء.
على الشّارع الممتدّ، مشَى صامتاً، عيناهُ مفتُوحتان، لكأنّهما ثقبانِ تتسرّب إليهمَا الأشياء خارجَ مدارِ الإدراكِ. يرى ولا يرى.


في هذه اللّحظة الرهيبة، ارتطمَ بفتاةٍ، حين رَفَعَ عينيه ألفَاها تُوضّب حِذاءها وتصرخُ: وَاشْ مَا كَتْشُوفْشْ قُدَّامْكْ أزْبلْ. لم يردْ. لم يعتذر أيضاً. التمعتْ في ذهنه فكرةُ أن يُعطيها الكتبَ التي كان ينوي إرسالها للغريبة. فالأمر سيّان. هو لا يعرفهما معاً. لكن في الأولى سرٌّ ما. سرٌّ ملغزٌ، محيّر، غامضٌ، مُعْتِمُ الحواف هو الذي يستوديهِ نحوها. من يصدّق شعريّة السرّ الغبيّة هاتهِ! إنّك تبتني من أوهامكَ عوالمَ هشّة ستتهاوى، حتماً، فوق رأسكِ. كنْ واقعيًّا. من ذي تحبّ الكُتبَ في زمن السّفالة. احْتفظ بأشعاركَ لنفسِك. لم يصخ السّمع للعتابِ الداخليّ.
حولكَ الـأراجيفُ تندلعُ ما تزال. وحولكَ وجودٌ فقد الثّقة في الربّ نفسه. وحولكَ النّهار ينفض غبارَ حيرته على العابرين. عادَ إلى سيارتِه المركونةِ قُرب المبنى البلديّ. وضعَ الكتبَ في المقعدِ الخلفيّ، ثم أدار المفتاح. شغّل جهاز الموسيقى. كانت ألحانُ الفصول الأربعةِ تأتيه متقطّعة. هو لا يسمعها كما تَصْدُرُ. بلْ كمَا تتشرّبها نفسهُ، هكذا تتسرّب إلى كيانهِ موجعةً على نحوٍ مؤذٍ، دَامٍ. لم يكن فيفالدي وموكبه يعزفون على آلاتهم، إنّما كانوا يعبثون به كما يحلو لهم. كلّ هذا من أجل غريبةٍ ملفوفة في الصّمت. كلّ هذا من أجل جُوليا. من تكون جوليا هذه التي هدّت نظامَ الكون حوله. كائناً من ورقٍ. آهٍ يا رولان بارث، من أين لكَ بهذا الحِذق المارقِ؟! لا بدّ أن هُناك قصّة تثوي خلفكَ يا بارث.
انطلقت السّيارة، بكلّ سُرعة، نحو لا هدفٍ. لم يكن يلقِ بالاً للسّائقين، للرّاجلين، للقافزين حولهُ. في زمن اللانتباه هذا، أوقفه شرطيُّ المرور، طلبَ منه الأوراق القانونيّة. أمدّها لهُ بتراخٍ وتثاقلٍ دلالةَ اللامبالاة. لكن الشرطيّ بادره بأنه ارتكب مخالفة بعدمِ احترامهِ الضّوء الأحمر، لهذا سيسجلّ مخالفته. وحينَ طلب منه النّزول، من السّيارة، لإتمام الإجراءات. ردّ عليه رحيم، بغيرِ إدراكٍ، بأّن جوليا ماتتْ. تحيّر الشرطي، همّ بسؤاله عن جُوليا. أتكُون ابنته أم زوجتهُ أم قريبة من قريباته. لكنه ابتلع السّؤال. أمعن الشرطيّ النّظر في رحيم، ألفاهُ معلقاً في صليبٍ من حديدٍ حامٍ، على محيّاهُ يتجعّد الحُزن. ردّ إليه الأوراقَ مواسيًّا إياه وناصحاً بالانتباهِ.


وصل، بعد لأيٍّ، إلى المنزلِ. لم يُسلّم على أحدٍ. اتجهَ نحو غرفته الحمراء؛ حيث يقضي سحابة وقته يرقعُ المجهول، ويحصي احتمالاتِ الوجود. وضع الأوراق البيضاءَ على مكتبهِ وطفق يحبّر قصّة عن جوليا والسجن الأبيض، كانت الجملةُ الأولى:
جوليا، أيّتها الوديعةُ اللئيمة، إنّك لا تستحقين ورقةً، واحدةً، ولو مسروقةً...
حبّر الجُملة الأولى بتوترٍ وطوّح بقلمهِ بعيداً. "جُوليا، أيّتُها الوديعةُ اللئيمة، إنّك لا تستحقينَ ورقة، واحدة، ولو مسروقة...". كانتِ الصّورة، صُورتها الدّامغةُ تنثالُ، بصيّغٍ متعدّدة، على ذهنهِ المثلومِ. تذكّر، في هذه البُرهة المتشنّجة إلْمَاعَة الصُّوفيّ، الذي التقاهُ صُدفة في أعالي إيِفري. قالُ له، هذا الرجل الذي يشبهُ الأنبياءَ، إنّ الحقيقة مَثْوَاهَا الممالكُ العُليا. كلّ موجودٍ لا يستوطنُ هذه المرتفعاتِ الشّاهقة، منذورٌ، بحكمِ قانونِ الطّبيعة، للانتفاءِ. إنّ الوجود هو ما يهْرعُ إلينا وينامُ في الدّاخلِ، مُستكيناً لصمته الأزليّ. لم يفهم رحيم فَحْوى الإلماعة الماكرة، لكنّه أحسّ بها تَسْرِي في كيانه، مُبْهمةً كسديمٍ لا تكادُ تَبِينُ تجاعيدُ وجههِ. كانتْ إلماعة تَضَاءَل فَهْمُهُ عن دَرْكِ مجاهلها.
مأخوذاً بهذه الأفكار المكينةِ، صوّب نظرهُ نحو لوحةِ "فتيات أفنيون"، المُعلقة، بأناقةٍ واحترافيّةٍ مُرعبةٍ، على الجدارِ الأحمر. بدت له الفتاةُ، الرّابضة في أقصى يسارِ اللّوحة، وكأنها ناهضةٌ من المقابرِ الفرعونيّة، في ظلّ تواري قاعدة المَنظور، اختلّ وجهها وتداخلتْ تأليفاته. أمّا الفتاةُ، المنتصبةُ في أقصى اليمين، فكانت ترتدي قناعاً إفريقيًّا سحريًّا يبعث على الارتياب.
ما بين اليمين القصيّ واليسار البعيد، كان الوسَطُ فضاءً أبيضَ، لم يستطع رؤيتهُ. رغم أنّه كانَ حاضناً لشخوصٍ آخرين. فَرَك عينيه بيديه المُرتجفتين. حينَ فَتَحَهُمَا صُعق. في الوسط، كانت صورةُ جوليا، تطلّ بعينينِ فاحشتيْ الإِبهام. في جسدها يتألّق مُوجزُ الجَمال الشماليّ المشفُوع بَوَهَجِ الشّمس وصَخب البحر. كانت جميلةً جداً، عَاتيَّة جداً، كَالموت. تلبّستهُ لَعْنةُ بِيكَاسُو، أَغْمَضَ عينيه، وتَدَحْرجَ في مُنحدراتِ روحهِ، وحين اقتربَ من الحوافِ المبهمة، تراءتْ له صورة جُوليا وهي تراقصُ فتياتِ أفنيون، في الوسط كان بيكاسو يقفُ عارياً ممسكاً بفُرشاةِ رسمٍ، كلّما حرّكها انْدَلَعَت الفرشاتُ الأرجوانيّة وحلّقت فوق شعرِ جُوليا المبللّ بدموعِ الربّ. يا للعنة...! أَبْعِدْ عنكَ هواجسَ الصّورة، حتماً، ستستوديك صَوْبَ الجُنون.


داخل هذا المدارات الضّالعة في غموضِ النّفس الإنسانيّة، أسلمَ نفسَهُ لنومٍ عميقٍ، علّه يتخلّص من هذه الصّور، التي نتأت كالوحوشِ الضّارية في دواخلهِ. عبثاً حاولَ. رأى، فيما يرى المُقبل على الموتِ، فتاة مضرّجة بحمرة الشّفق النّاعس، تُحاول الاقترابَ منه، وكلّما اقتربت ازدادت بُعداً. تملّى ملامح الفتاةِ، رغم بُعدها، أدرك أنّها سيّدة الأضَاليَا. كانت مُتردّدة، تتوجسّ خيفةً من مجهولٍ انبجس كظلّ في ليلٍ مُقمرٍ ثم امّحى. لم يفهم سببَ تردّدها. وعنّ له، ها هُنا، الاقترابُ منها. عساهُ يطمئنُها. لكنّها تَأبّتْ، وَتَمنْعَت، وركَضت نحو النّهر الأسودِ الذي كان يجري قُربها. على الضّفة الأخرى من النّهر، كانَ شابٌ وسيمٌ يناديها، بصوتٍ رخيمٍ، أن تؤوب إليهِ، فقد حضّر لها كرنفالَ حبّ يليقُ بزهور وجهها. بينما يقفُ رحيم، في الجِهة المُقابلِة، حسير الحالِ كَسِيفَهُ، يستعطِفُها أنْ تدفعهُ في جرفٍ هارٍ وتعودَ لحبيبها. كان يعرفُ أنه كلمّا توغّل في جروفِ المرتفعات العُليا اقترب من حقيقته. وقفت سيّدة الأضاليا بينهُما. همّ رحيم بالاقترابِ منها؛ فإذا هي سِربُ غربانٍ يملأ الأحياز والأفضية بشُحاجٍ مخيفٍ، مُدوٍ، مُرعبٍ. تهاوى فستانُها فارغاً على الأرض السّوداء، وتحوّلت جوُليا إلى هلامٍ عارٍ.
قَفز رحيم من مكانه مُرتعداً، صارخاً: يا ربّ الشياطينِ أيّ كابوسٍ هذا! وأيّ امرأة هاته التي تُعذّبني بها...! وقف حيال مرآته ذات الإطار الفضيِّ، يتفرّس حروف وجههِ الموشوم بمحن الدّنيا. هل هذا الوجهُ المحنّط بالفجيعة وجهي! أما من راهبٍ يُقاسمني شقاءَ الحظّ في قدري! نبس بهذه التعويذة الطاعنة في القداسة. واقتعد كرسيّه ليكمل رسَالتهُ. كانت الجملُ الموالية:
 ...واعْلَمِي أنّ الشّقاءَ وُلِدَ يَوم ارْتَطَمْتِ، وأنت صغيرة، بِعُشِبِ الأرضِ السّوداء. كلّ صورةٍ اقترفتها مخيلتي عنكِ: إثمٌ ضروريّ. وكلّ اقترابي منكِ كانَ ضرباً من الخرابِ اللابدّ منه...


فلتَخسأ أيّها اللّيل/ الربُّ...
وقفَ حُيالَ نافذتِهِ. بقلبٍ مُدمى. يتملّى نجمةً مرقتْ، خطفاً، في منحدرٍ علويٍّ أسودَ مريبٍ...انثالت عليه أفكارٌ شرسةٌ عن الربّ والشّيطان. عن الوجودِ والفناء. في مداراتِ هذه المعادلة المُربكة، استلّ قلمهُ، وانغمس في عمقِ المذبحةِ، علّه بفعلِ الكتابةِ يُداري شراسةَ التّهاويم التي لا تني تتهاوى بكلّ سخطٍ وثقلٍ.
كتبَ:
"جُوليا،
هذا الجسدُ المشبوحُ بالدّم والموتِ
لَكِ،
هذا الرّجعُ المُعتصر من أناجيلِ الجسدِ
لَكِ،
هذا الظّل، المَشطورُ، المعمّد بالرّمادِ
لكِ،
 فابتلعيه يا عاهرتي المقدّسة
بصمتٍ وَثنيّ، ثم موتي..."
كانت الكتابة، هاهُنا، قرينَ احتضارٍ ثقيلٍ، عنيفٍ، موجعٍ. ذبحاً بسكينٍ ذاتِ نصلٍ صدِئ فَقَدَ، مع الوقتِ، حدّته؛ فلم يعد يحزّ بأناقةٍ قاتلةٍ. هي ذي أمواجٌ كامدةٌ طاعنةُ القتامة تنهالُ عليه تِبَاعاً: سوادٌ، ظلامٌ، روائحُ جيفٍ غبّ التفسّخ. لم يجد بدًّا سوى أنْ يكتب. كتب:
"كلّ الصّورِ المُقترفةِ ليلاً ليلٌ،
وأنتِ
يا ابنة اللّيل اللّقيطِ
اسمعي نوّاحَ الهزيمةِ
واشربيهِ: كَرعاً، عبًّا، دلقاً
لا يهمّ...فنحنُ أبناءُ الليّل لا نشربُ خلا دَمنا الأسود.
كلّ التخاييل المرتجفة فوق جسدكِ- هذا المتحفّز، المحترقُ، المنتزع من ضلوعِ الربّ اللّعين-
إثمٌ قمينٌ بالارتكاب، جريمةٌ ضروريّة."


رمى القلم جانباً، بصق على الأوراق، وعاد إلى النّافذة. كان الليّل، كلّ اللّيلِ يعرّش في الأفضية والأحياز، يشهرُ ظلامه الدّاجي. لم يكن رحيم يخالُ أنّ صورتها ستعيث في دواخله هكذا، كلّ شيء بدأ بصورة: هي الليّل وانتهى بصورةِ: هي اللّيل. غَالَبَ إعياءهُ الممض، وآب إلى كرسيه الخشبيّ. جلس بتهالكٍ، ثم طفق يقلب الصّور. هي ذي صورتها: قوامٌ فارعٌ، عيونٌ هي نارُ المجوس؛ الآن فهم سبب عبادة المجوس للنّار. شعرٌ مبلّلٌ ينسدلُ بفتنة على كتفيها، وابتسامة لا تكادُ تَبِينُ، هديّة لغريبٍ ما. علّه هو هذا الغريب...!
مأخوذاً بأحاسيسَ أولانيّة، متصلة، هلاميّة، أخرج ولّاعته وأوقد النّار في الصّورة. أخذ يضحكُ بهذيانٍ مفرطٍ: هي ذي جوليا تحترقُ، تمّحي، يرشحُ رمادها في القيعانِ العميقةِ للخواءِ. كتب:
"أيّها الليّلُ/ الربُّ/ السّواد الخاوي:
لا جسدَ في جسدي؛
وهذا الهواءُ الحامي
فيوضُ نارٍ...فاقبض روحكَ
وارحل إلى ظلّكَ العالي..."



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-